متابعات إعلامية / القاهرة / كتب / ياسر عبد العزيز
الصحفى الجندى نوع من
الإعلاميين يخلط بين الهواية والاحتراف، ويمارس مهنة تعد الموضوعية أحد أهم
أهدافها بأكبر قدر ممكن من الانحياز، وبدلاً من أن ينقل لجمهوره حقائق ومعلومات،
يزودهم بآرائه ومعتقداته، فيحرف اتجاهاتهم، ويفقد ثقتهم، لينصرفوا إلى وسائل أخرى
وإعلاميين أكثر حرصاً على الموضوعية والتوازن.
يعرف واقعنا الإعلامى
ظاهرة الصحفى الجندى ويعانى آثارها منذ عقود طويلة، فقد نشأت وسائل إعلامنا فى
أحضان الدولة، ومن ثم كان الكثير من صحفيينا مجرد «موظفين» لدى الحكومة، يأتمرون
بأوامرها، ويحصلون على رواتبهم من خزانتها، ويفكرون بعقلها، ويحاربون معاركها،
ويستهدفون أعداءها.
وعلى مدى تلك العقود
تكرست سمات الصحفى الجندى ومعها أطروحة تمت تسميتها «الصحافة المسؤولة»، ونظّرت
لكليهما الأكاديميات، وراحت تروج مفاهيم عن ضرورة الولاء لـ«الخط الوطنى»، الذى
يتحول ببساطة إلى «الخط الحكومى»، تحت غطاء «المسؤولية الاجتماعية»، لتبرير
الانحياز الصارخ فى الأداء الإعلامى، واعتبار خدمة الحكومة خدمة للدولة، ومن ثم
خدمة للمجتمع والناس والوطن.
يعمل الصحفى الجندى فى
منظومة إعلامية تسود فيها أشكال من «القتال بالأخبار»، لتكريس انحياز ما لفكرة أو
رأى أو أيديولوجيا أو حكومة أو فصيل سياسى أو طرح اجتماعى أو نفوذ مالى.
ينخرط الصحفيون الجنود فى
معارك حكوماتهم أو ملاك وسائلهم، ويتلمسون اتجاهات الريح تجاه القضايا والأفكار أو
الأطراف السياسية أو الدول، ويبادرون بشن الهجمات على الأعداء وتسفيه آرائهم
وازدراء حججهم، وفى الوقت نفسه يمجدون حكوماتهم ويبرزون مناقب قادتهم ويعززون
الأفكار الإيجابية عن الحلفاء والأصدقاء.
ولعقود طويلة كانت وكالات
الأنباء الأجنبية والدبلوماسيون الغربيون ووزارات الخارجية ومراكز البحوث تتقصى
مواقف حكوماتنا مما تكتبه الصحافة. ومن ذلك أن صحفيين بأعينهم كانوا معروفين كأكثر
وسائل التعبير عن الرأى الحكومى والموقف الرسمى، ليس من خلال مقالاتهم فقط، ولكن
أيضاً من خلال الأخبار والمواد التى ينشرونها، والتى تُختار بعناية لتعكس وجهة نظر
الحكومة بأكبر قدر ممكن من الأمانة.
ظل الصحفى الجندى أميناً
لمعاركه التى يحاربها، حتى صار يتفنن فى اختراع الوسائل التى يحقق بها غرض حكومته
أو مالك وسيلته، ومن ذلك أنه فى أحيان عديدة تجاوز الحدود، أو واصل الهجوم أو
الترحيب بموقف أو طرف، فيما أحوال السياسة تغيرت بأسرع من إدراكه لها، وبالفعل فقد
تلقى لوماً أو جزاءً، وربما أطيح به أو عوقب عقاباً مريراً على فعلة ارتكبها
إثباتاً فى إمعانه فى الولاء.
ينتمى الصحفى الجندى
لتنظيم نقابى من المفترض أن يكون «نقابة أو جمعية أو اتحاداً»، لكنه يرتاح لوصف
هذا التنظيم بأنه «نقابة الرأى». وبدلاً من أوصاف الصحفى المحترف أو الإعلامى
المهنى، فإنه يفضل «صاحب القلم الحر» أو «صاحب الرسالة» أو «المدافع عن قضايا
الوطن» أو «محامى الشعب».
حين يشعر الصحفى بأنه
محامى الشعب أو حارس الوطن، فإنه يفقد أحد أهم شروط ممارسته مهنته، ذلك أنه لا
يوجد أى إثبات على أن هذا الصحفى، أو الإعلامى، مهما تأكد لنا ما يتحلى به من
مهارة أو وطنية أو نبل ونزاهة، أكثر معرفة منا بمصلحتنا، أو جدير بالوصاية علينا،
أو أقدر على تصحيح اتجاهاتنا.
يحارب الصحفى الجندى
بالأخبار، فيسلط الضوء على قضايا يعتقد أنها أكثر تلبية لاحتياجات الجمهور، وأكثر
خدمة لمصالحه، ويحجب الضوء عن قضايا أخرى يراها أقل أهمية. وهو يختار من الشخصيات
التى يغطى أخبارها من يعتقد أنهم جديرون بالتقدير والاحترام، فيلمع صورهم ويبرز
مناقبهم، كما يختار هؤلاء «الأعداء» أو «البلهاء» أو «السيئين»، فيشنّ عليهم
هجماته، و«يفضح» خطاياهم، ويحط من شأنهم لدى الجمهور.
ليس هذا فقط، لكن الصحفى
الجندى يصوغ لنا العبارات وفق فهمه للأمور، وبحسب قناعاته ورؤاه، فيختار من بين
قتلانا الشهداء، فيمنحهم صكوكاً لدخول الجنة، كما يحدد القتلى الذين «ذهبوا غير
مأسوف عليهم»، كما يميز بين «الإرهابى» و«المقاوم»، وبين «العميل» و«الوطنى»، من
وجهة نظره، ويجعل من الإضراب «تخريباً» أو «موقفاً وطنياً»- حسب الأحوال والقناعات
التى يدافع عنها.
يحاول الصحفى الجندى
إقناعنا بموقفه، فيقول إن «قناة كذا تريد هدم الوطن»، وإن «الجميع يفعل ذلك فى
أعظم البلدان»، وإن «الوقت ليس وقت سفسطة وتنظير وادعاء مثالية.. فنحن فى حرب». إننا
نقدر هذه الذرائع، ونصدق معظمها، لكننا يجب أن نحتفظ بالفارق الأخلاقى بيننا وبين
خصومنا، ويجب أن نحتفظ أيضا بجمهورنا، الذى لاشك سينصرف عنا حين يعرف أننا نبيع «مواقف
وطنية» تحت لافتة تقول إنها «إعلام» أو «أخبار».
ليت الصحفى الجندى يذهب
إلى الميدان فيحارب، أو يسود المقالات بآرائه، أو ينشئ جمعية مدنية أو حزباً
سياسياً، أو يعبر عن آرائه بأى طريقة يراها مناسبة عدا أن يفسد علينا الأخبار.
إذا كانت الحقيقة واضحة
كما تقول، فليس مطلوباً منك سوى إبرازها، وإذا كان تحويل القناة أو الجريدة إلى
سلاح فى المعركة سيقربك من الانتصار على المدى القصير، فإنه بلاشك سيقودك إلى
الخسارة على المدى الأبعد.
المصري اليوم