متابعات إعلامية / المكلا / صالح الفردي
المكلا اليوم
حاولت مرارا، أن أحظى بلقاء يجمعني ورائد من روّاد الصحافة في
حضرموت، هو الأستاذ المؤسس لصحيفة الطليعة أحمد عوض باوزير التي صدرت في أواخر شهر
مايو من العام 1959م، معلنة عن مرحلة جديدة في الصحافة المكتوبة في المكلا - وقد
تحققت تلك الأمنية يوم الأحد: 6ديسمبر 2009م، لتضعني في مواجهة حقيقية مع التاريخ
المجيد للصحافة الحضرمية، اقتربت من حركة الحياة التي كانت الطليعة ورائدها راصدين
لها في وجهها السياسي والثقافي والفكري والفني والرياضي، لأجد أن ما تحتضنه
المجلدات الثمانية - التي بقيت كذكرى خالدة لتلك المرحلة الثرية - تشي بمدى ما
وصلت إليه قدرات وإمكانيات ذلك الرعيل الأول من صحفيي حضرموت، فقد كان الرائد
باوزير، ونحن نتجاذب حديث التاريخ وحنين الذكريات، يسترسل بذاكرة متقدة للبوح بما
كانت عليه تجربته الصحفية عامة، ورحلته مع الطليعة خاصة، فقد استطاع هذا الرائد
العصامي أن يثقّف نفسه بنفسه، وكان يلتهم أمهات الكتب والمجلات والدوريات وكل ما
يقع بين يديه من قصاصات يشم منها وفيها رائحة الحبر الطباعي والرحيق الورقي
الصحفي، هكذا كان يمتح زاده المعرفي والثقافي والفكري ليصبح رائدا طليعيا في
حضرموت يتخذ من صحيفته منبرا حرا لتلاقح الأفكار والرؤى بشفافية مجتمعية كانت
مقبلة على مشروعها الحضاري بقوة واستماتة، حوار كانت حصيلته هذا الزاد التاريخي
والمعرفي والحياتي الثري والباذخ لقامة سامقة في تاريخ حضرموت المعاصر..
أستاذ أحمد ونحن هذا المساء في منزلك العامر بإذن الله وأنت
رائد الصحافة الحضرمية منذ مطلع الستينيات وكمؤسس حقيقي لأول مطبعة في حضرموت
وأيضاً كصاحب أول صحيفة رائدة استطاعت أن يكون لها صدى كبير جداً على مستوى الداخل
وعلى مستوى الخارج. يصبح السؤال بديهياً عن البدايات. البدايات لتكونك الشخصي قبل
التكون المؤسسي الصحفي. تكون الأستاذ أحمد عوض باوزير هذا الكاتب الألمعي الذي
تعددت كتاباته فيما بعد. ما هي البدايات؟
منذ أن كنت في الغيل قبل أن أتحول إلى المكلا ومن ثم إلى عدن، كان عندي تطلع إلى الصحافة. وكنت أكتب مجلات خطية. كان هناك مجلة أصدرتها في الغيل كان اسمها (الأستاذ) وكنت أوزعها على مدرسي الوسطى. وكان ذلك بعد انتقال الوسطى من المكلا إلى الغيل في عام 1944م. ثم انتقلتُ إلى المكلا وبدأت أكتب في بعض الصحف المطبوعة الأسبوعية مثل صحيفة المنبر، كانت صحيفة متميزة رئيس تحريرها الشيخ عبدالله سعيد باعنقود وسكرتير التحرير عمر مثنى من الشباب الناهض. كانت مجلة مطبوعة لكنها محدودة ولم تستمر ولم تكن لها علاقة بالسياسة. كانت فقط عبارة عن كتابات ثقافية علمية تاريخية أدبية. وبعد أن ذهبت إلى عدن التحقت فترة بالعمل مع الشيخ علي محمد باحميش، وهو رجل عالم وكان مدير مدرسة بازرعة الخيرية وقد درّست أنا أيضاً في مدرسة بازرعة. وكان الشيخ باحميش يصدر صحيفة الذكرى وهي صحيفة دينية، فكنت أذهب في المساء إليه في البيت وأصحح المقالات وأقوم بالتبويب وما إلى ذلك. بعد ذلك عملت في النهضة التابعة لعبد الرحمن جرجرة. وكان فيها عبدالله باذيب وأحمد باخبيرة ومجموعة من الصحفيين الذين كان لهم دور. اشتغلت مع جرجرة في أوقات بعد الظهر، العصرية، وكنا نجلس مع الجماعة ومنهم عبدالله باذيب الشخصية التقدمية وأخوه علي عبدالرزاق باذيب الاشتراكي.
الانتقال إلى عدن كان محطة مهمة جداً بالنسبة لك في توجهاتك الصحفية. كانت البدايات على مستوى الغيل ثم على مستوى المكلا. ثم جاءت المحطة الحقيقية وهي عدن التي كانت داخلها أيضاً محطات صغرى . . مرحلة باحميش ومرحلة جرجرة، ثم جاءت النقلة الكبرى. كيف جاءت هذه؟
الحقيقة أنه حتى عندما كنت في المكلا كنت أتابع كتابات عبدالله باذيب في النهضة وهو كان دائماً مهتماً بالوضع الثقافي والسياسي، مثلاً في قضية حادثة القصر التي أصدرت عنها فيما بعد كتاباً بعنوان (شهداء القصر).
نقف قليلاً، أستاذ أحمد، عند مسألة الحادثة والكتاب. حادثة القصر المعلوم أنها وقعت في عام 1950م. فهل عندما وقعت الحادثة أتيت من عدن لتغطيتها فكان أن امتلكت كثيراً من الحيثيات؟
أنا كنت في المكلا في ذلك الوقت. كنت في المدرسة الغربية بجانب المستشفى، ومع المظاهرة حوصرنا داخل المدرسة وأخرنا خروج الطلبة إلى وقت العصر.
ما هي تداعيات هذا المشهد على ذاكرتك الصحفية وأنت مازلت فتى صغيراً؟
الحزب الوطني تأسس لأول مرة حزب من خيرة الشباب، فيه عبدالله سالم باعشن رجل قانوني، ومجموعة من الشباب. وبدا كأن القصر كان يؤيد هذا الاتجاه خصوصاً السلطان صالح بن غالب القعيطي رجل معروف بتوجهاته الإصلاحية. لكن الظروف بعد ذلك وما طرأ على الحزب نفسه من رغبة في تغيير الوضع. بدأوا يحسون أنه لا بد من خلخلة الوضع.
يعني السلطان رأى في مطالبهم بعض التوجهات السياسية التي ربما لا يتحملها الوضع في تلك الفترة
هو في الحقيقة لم يكن يتابع بنفسه ولكن الأشخاص الآخرين في الدولة هم الذين كانوا يمسكون بدفة الأمور.أنا كنت موجوداً في نفس الحادثة، كنا في المدرسة الغربية على مقربة. كان هناك كثير من الناس. وبالنسبة للحزب كان ضمنهم عمر مثنى وآخرون لا أتذكرهم، المهم كان هناك نشاط مهم وكانوا ينشرون كتاباتهم في الصحف العدنية التي كانت بدورها مهتمة بمتابعة التطورات. كان هناك أحد الصحفيين اسمه محمد عمر بافقيه كان سابقا في إندونيسيا صحفي متميز وساعد في نشر الرسائل إلى عدن. كانت هناك كتابات كثيرة متعلقة بالحزب. طبعاً كان حادث أليم وما كان ينبغي أن تؤدي الحالة إلى تلك الحادثة ولكن كان هناك تهور من المستشار وخوفوا السلطان أن هؤلاء سيأتون ويكسّرون وسيكون هناك خطر على حياته. والذي حصل أن القصر كان كله ممتلئ، وكانت مطالب المتظاهرين ومطالب الحزب إيجاد محلس تشريعي ومساعدات للفقراء. ثم تطور الموقف إلى المواجهة وكان رد الفعل غير معقول، إطلاق النار حاجة مكشوفة أمر من السلطان، في الحقيقة لم يكن من السلطان ولكن من المستشار بوستيد كان كل شيء بيده، أمر بإطلاق النار فتفرقت الجموع بعد ذلك. كانت فعلا روح وطنية في الحزب الوطني. وكان السلطان في ذلك الوقت في حضرموت الداخل (ورد في كتاب – شهداء القصر- أنه كان في الهند!) وطلبوا منه أن يسمح لهم بالتظاهر، وكان الأمير عوض موجود في غياب والده قال لهم أنا سأتصل بالوالد. فانتظَروا حتى يصل السلطان واستفادوا من مجيء السلطان من سيئون وخرجت مظاهرات نظمها الحزب الوطني خرجوا في مظاهرة سلمية، حتى عقال الحافة و. . جماعة المجلس البلدي شخصيات كثيرة خرجت. وقد تكون بعض الهتافات شديدة بعض الشيء، لأنه لم تكن هناك قيادة لأول مرة طبعاً مظاهرة بهذا الشكل وكانوا يتجهون في طريقهم إلى القصر مخترقين السوق العام وكانوا يطلبون من الناس أن يقفلوا دكاكينهم وأحيانا يشتدون معهم في الكلام، فاضطر الناس بعد ذلك إلى الإغلاق. وكل الناس خرجت إلى القصر وأصبح القصر ما شاء الله ممتلئ (يضحك). ثم حصل إطلاق النار وخاف الناس، حتى سدة المكلا أغلقت يقال بأمر من (بن سميدع) أو من المستشار حقيقةً، وأقفلوا أبواب القصر والناس مزدحمة وجرت محاولات تكسير.
وبعض الناس اتجهوا إلى البحر يبحثون عن مهرب.
بعض الأشخاص حاولوا أن يصعدوا إلى القصر إلى عند السلطان فوق وكان مجتمع مع أركان الدولة في غرفته الرئيسية وطبعاً منعوا من هذا. وهذا أدى إلى خوف السلطان فأبعده الموجودون عن المكان وكان هناك السوداني الشيخ القدال والشيخ عبدالله الناخبي وأعضاء مجلس الدولة. كان هذا موقف حرج، عملية الطلوع إلى القصر وكان هناك خوف من أن يحدث تخريب وفعلا قيل إن أصص الأشجار التي في القصر رميت وعبثوا بها.
كان الموقف يكاد يكون عبثياً!
ما فيش قيادات كلهم انسحبوا العقال.
هذه الحادثة تكاد تكون حتى اللحظة حادثة مفصلية في تاريخ حضرموت المعاصر والكثير عرض لها والكثير وضع لها أقاويل والكثير حللها والكثير أدان فيها شخصيات معينة وربما البعض حوكم بأثر رجعي لها ودفع الثمن بعد مراحل طويلة جداً. أنت اليوم وقد كتبت كتاباً في هذا الاتجاه تكاد تكون دخلت في جوانب تفصيلية فيه وحتى عملية المحاكمة والأحكام التي صدرت فيها. بعد هذا العمر الطويل، كيف ترى هذا المشهد، هل كان يجب أن يكون وهل كان بالإمكان تلافيه؟
في الحقيقة الطرفان كانا مخطئين، كان هناك تهور من الشباب والناس، وأيضاً السلطة رأت في الموقف خروج على طاعتها (يضحك) وأن هؤلاء ناس مارقون.
هل السلطة ما كان لربما عندها الإحساس بأن مثل هذه المواقف قد تحدث؟ يعني الخروج عن الطاعة بمثل هذا النزق يبدو لي أنها لم تكن مهيئة نفسها لمثل هذه المواقف فلذلك جاءت ردة الفعل انفعالية أكثر من اللازم؟
لأن السلطان صالح كان موجوداً، رجل يعتبر بمثابة كبير العائلة. .
ورجل له رصانته وقيمته وكاريزميته.
وعالم، ولكن لم يكن عنده الوعي المتطور أن الحكم سيكون ديموقراطياً، كان يرى أن القصر يُنظَر إليه باحترام وحتى عندما كان الناس يمرون عند القصر كانوا يفزعون ويمرون مسرعين كأن القصر بعبع (يضحك). فما كان هناك ذاك التقارب بين الشعب والوطنيين من جهة وبين السلطة الحاكمة.
لا شك أن الحادثة هذه إلى جانب أنها وضعتك في محك حقيقي وضمير الكاتب وضمير الصحفي تراكمت لديك مثل هذي الأحاسيس وأصبحت تشعر في داخلك بأن القلم كلمة والكلمة قيمة وموقف. هذه انتقلت معك إلى عدن، فكيف استطعت أن تترجم هذه المعاني، أستاذ أحمد، في مسيرتك الصحفية في عدن؟
طبعاً كنت في البداية في النهضة وكان عندي باب أكتبه، وكان هناك تناولات لحادثة القصر لأن الفترة كانت قريبة. والكتابات كانت واضحة ومع ذلك لا أحد يقدر يمسّك بشيء، وكان الأستاذ محمد بامطرف وكان محمد عمر بافقيه مراسل النهضة وهو صحفي من إندونيسيا ، جاوي. فكانت كتابات كثيرة ظلت فترة تنشر في النهضة وبعض الصحف الأخرى. هي فعلا حاجة مش بسيطة ونُقلت قوية لأنه ما كان أحد من قبل يقدر يتكلم حتى على رئيس إدارة مثلا.
طيب مشوار عدن، هذه الشخصية الحضرمية الشابة تبحث عن مكانة في عالم عدن، وعدن كانت هي قبلة الثقافة والحضارة والفن والصحافة على مستوى الجزيرة وليس على مستوى المنطقة فقط. كيف استطعت أن تكون اسماً مرموقاً في صحافة عدن في تلك الفترة؟ لا شك أن الإمكانيات التي لديك هي الفيصل الأول، ولكن كيف استطعت أن تشكل حضوراً في هذه المدرسة العدنية في الصحافة؟
أنا كنت أتردد على عدن وكنت مدرس هناك وألتقي بعبدالله باذيب ومجموعة من الشباب كانوا يجتمعون في بيت باسندوة واحد من الشباب ويتحدثون عن الاشتراكية و..
المبادئ الإنسانية بشكل عام!
ما كان هناك اتجاه للشيوعية. في الحقيقة عبدالله باذيب يعتبر المناضل الأول في الحركات الاشتراكية، كذلك أحمد سعيد باخبيرة وعلي باذيب. فكانت مجموعة فاهمة وواعية وتكتب بوعي. وكانت جماعة أخرى يردون عليهم في فتاة الجزيرة وصحف أخرى. ولكن هذ التيار كان بدأ ينمو وعبدالله باذيب كان فعلا متعمقاً في فهم الفكر الاشتراكي. كنا دائماً نتناقش عنده في المكتب وكان صدره واسع للحوار. وبعد أن أوقفت النهضة انتقل إلى تعز وحرر صحيفة الطليعة هناك. وعدن كانت في تلك الفترة بلد حضارية، المكتبات متوفرة والمحاضرات دائماً في الأندية والجمعيات.
إشعاع فكري وثقافي وصحفي في المنطقة كلها.
عدن بالذات، والجامعة كانت موجودة لأول مرة ( ؟) والمدارس والثانويات، وكانوا محتكين بالبلدان العربية مصر وسوريا، والخريجون الذين جاءوا في تلك الفترة انتشروا والمكتبات كانت مليانة بالكتب ما شاء الله.
الانتقال إلى صحيفة الأيام سكرتيراً لها، كيف جاءت هذه الخطوة بالنسبة لك؟
أنا كنت مع هيئئة التحرير في النهضة وكنت أتابع كتاباتهم الطيبة ونتناقش دائماً في الإدارة. بعد ذلك أغلقت النهضة، فأصدروا صحيفة اليقظة يومية وبقيت أعمل فترة إلى أن أسس باشراحيل الأيام. وجرجرة هو الذي أشار علي بأنه إذا باتنضم إلى صحيفة الأيام فهي فرصة طيبة سيكون لك دور. كانت هناك علاقات طيبة بين الأيام وجرجرة وجماعة باذيب وكانوا يكتبون في الأيام، وأنا كنت أكتب مقالاً افتتاحياً في تلك الفترة مع التأسيس.
أظن في 1958؟
أحمد عوض- صح وكنت قبلها وجدت فرصة لأعود إلى البلد وأتزوج وفعلا خرجت إلى حضرموت وتزوجت ورجعت مرة ثانية إلى عدن ثم جاءت فكرة إصدار الصحيفة. طبعا عاد ما شي استعدادات ولا فلوس ولا حاجة. لكن كان عندي ممارسات في عدن في أكثر من صحيفة، ووجدت القدرة عندي أن..
أن تبدأ خطوة حقيقية في حضرموت.
كانت فكرة جادة. حتى الجماعة والطلبة أمثال عوض عيسى والذين جاءوا من العراق استصعبوا هذه الخطوة في ظل قيود الحكومة ولا يوجد قانون صحافة فالسلطان هو كل شيء وله مطلق الصلاحيات. قلت لهم أنا مدرك هذا وقد اشتغلت في الصحافة وأنا قادر على أن أخوض هذه التجربة. وكان محمد عبدالقادر بامطرف في السكرتارية وبعض الإخوان. وقام بامطرف بدور فعلا في إصدار الترخيص للطليعة. وبعدين الحمد لله صادف أن أنشئت أول مطبعة تجارية في المكلا وهي مطبعة المستقبل شركة أهلية. طبعاً كانوا لم يصدروا بعد أي صحف وإنما بدأوا بطباعة أوراق تجارية. فتوجهت إليهم للتعاقد معهم على طباعة الصحيفة وكان هناك عمر مثنى وهو صديق وبعض المتنورين. وبعد حصولي على التصريح والاتفاق مع المطبعة خرجت إلى وادي حضرموت واتصلت ببعض الشخصيات ووجدنا اشتراكات منهم. كثير منهم تجاوبوا، بن عبيد الله السقاف و محمد بن حسين الكاف في تريم رجل معروف بحبه للدولة القعيطية. ثم عدت إلى هنا وكنا نطبع لدى شركة المستقبل وبقينا فترة سنة تقريباً ثم فكرنا نقيم شركة من بعض الإخوان منهم الشيخ محمد عوض باوزير في عدن وأنا أيضاً شاركت.
أول عدد يصدر والمانشيت وترويسة (الطليعة) تتذكر هذه اللحظات؟
طبعاً. وفي الحقيقة بعد أن أصدرنا أول عدد كان هناك بعض الأشخاص لا نقول لديهم أحقاد وإنما...
أصحاب العزائم المثبطة هؤلاء موجودون دائماً.
ولكن أنا كان عندي عزم مهما كانت أي معارضة وهكذا بدأنا الصحيفة. وكنت أكتب (الطليعة تقول) افتتاحية العدد أسبوعياً، وهناك مجموعة كبيرة من هذه الافتتاحيات إن شاء الله سنعدها للطباعة فيها مناقشات للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والحقيقة أنا كنت الوحيد في الصحيفة رئيس التحرير وسكرتير التحرير والمصحح، وكنت أخرج أبحث عن إعلانات واشتراكات من الصباح أحمل شنطتي وأقطع شارع المكلا وأمر على أصحاب الأعمال. وفيما بعد بعض الشخصيات في الحكومة مثل بامطرف وبعض المتأدبين شاركوا كثيرا بالمقالات التاريخية والاجتماعية، وبعد كده طبعاً جاءتنا رسائل من الداخل ومراسلين من الموظفين الذين يعملون عند النواب كانوا أسبوعياً يرسلون لنا أخباراً اقتصادية وغيرها وكذلك رسائل من الخارج من السعودية ومن عدن الكثير كانوا يكتبون وكان واحد اسمه بارجاء له كتب مطبوعة. كان عندي صندوق بريد في إدارة البريد كل يوم أمر هناك وأستلم المقالات والأخبار وطلبات الاشتراكات، كان الاشتراك عبارة عن 25 شلن في السنة. والحمد لله مشينا وفيما بعد أحضرت معي جماعة مساعدين ولكن بالنسبة للصحيفة كنت أنا الذي أجمّع الأخبار وأمر على الدوائر وكان معنا أيضاً إبراهيم باوزير في المطبعة. وبعدين الشلة بامطرف عوض عيسى والجماعة الذين تخرجوا التقينا معهم وهم في الحقيقة قد يكون لهم مذاهب أخرى ولكن من ناحية الثقافة والفكر كنا متقاربين.
يعني استطعت أن تشكل منها منظومة وطنية ذات اتجاهات لا نقول متشابكة ولكن فيها رؤى مختلفة وإن كانت الغايات تكاد تكون واحدة.
كثير شاركوا فعلاً وعندما رأوا رسوخ الصحيفة وسياستها ارتاحوا لها.
طيب، صدى هذه التجربة على الشارع؟
أنت عندما تقرأ الأعداد الأولى من الصحيفة تجد حتى من العلماء في حضرموت وفي السعودية وفي اليمن داخل وبرضه من إندونيسيا مقالات وترحيب ونحن نشرنا بعض الرسائل من شخصيات مختلفة.
يعني حدث غير عادي.. وأنت أحمد عوض باوزير من أسرة معلومة تماماً ومن مدينة الغيل وذات توجهات دينية. ألم يصدمهم اسم (الطليعة)؟
هو الطليعة طبعاً بعضهم يفسرونها بالشيوعية (يضحك) ولكن هذا الاسم في الحقيقة وأنا قادم من عدن في (ساعية) على ما أظن طرأ في رأسي اسم الطليعة (يضحك)، وعندما خرجت وقابلت بامطرف قال لي: يا أخي أيش هذا الاسم؟ فقلت له: هذا الاسم إن شاء الله سيستمر ويدوم فكانت (الطليعة) فعلا طليعة لمجتمعها.
لا شك أن التجربة أغرت الكثير بالولوج إلى هذا العمل. فكانت الطليعة هي طليعة استفزت آخرين للدخول في الساحة. كيف كانت النقلة التي تزامنت فيما بعد وأصبحت بدلاً من أن تكون صحيفة واحدة هي الطليعة، أصبحت أكثر من صحيفة تصدر من مدينة المكلا فقط كالرائد والرأي العام وهذه جاءت بعد مراحل. كيف تنظر لهذه الفترة؟
أظن أن هناك من كان غير متقبل الوضع أن باوزير يصدر صحيفة ويبدو أنه كان هناك تفكير لإصدار صحيفة أخرى. ولكن جئت أنا وكان اتفاقي اتفاق عادي واتفاق تجاري، وهم قالوا إن باوزير وجد ناس يساعدونه (يضحك). وفي الحقيقة كنا أصدقاء ويومياً نلتقي في المطبعة مع حسين محمد البار.. رجل عاقل..
أديب شاعر ومحامي. لكن.. الطليعة، الرائد، الرأي العام صحيفة علي عبدالرحمن بافقيه وجاءت فيما بعد الجماهير. كيف تقبل الشارع التنوع والتلون في الاتجاهات الصحفية في حضرموت في تلك الفترة على عدم انتشار التعليم بشكل كبير، ولكن كانت قيمة الصحافة قيمة كبرى.. كيف تراها؟
أولاً الطليعة هي الوحيدة التي استمرت ثمان سنوات.. مستمرة. الرائد استمرت سنة وشوية وعلي بافقيه استمر فترة قصيرة وأيضاً الجماهير. نحن كنا نرسل إلى السعودية أكثر من أربعمائة عدد، كان عندنا واحد هناك يوزع. وعندنا اشتراكات حتى إلى لندن وإلى أمريكا هناك مشتركين في الطليعة. وفي نهاية الأسبوع عندما تصدر الصحيفة نجتمع في البيت، يأتي سالم يعقوب باوزير وإبراهيم باوزير مجموعة أصدقاؤنا ونجلس نعطّف الجريدة نعمل عليها ورق مطبوع فيه أسماء المشتركين، وفي الصباح كنت أنا أخرج ومعي كرتون (يضحك) يحتوي على تلك الأعداد وأتوجه إلى إدارة البريد كانت في مكان قريب. واستمرت الصحيفة واشتراكات كثيرة ورسائل تأييد.. في الحقيقة الواحد يفخر بهذا.
التجربة هذه يكاد يكون تجربة رائدة ولكنها لم يكن لها صدى كبير جداً فيما بعد خاصة وفقاً والظروف السياسية التي عاشتها البلد. لكن أنا أقصد فترة من 59 إلى 67، هذه الثمان السنوات كانت الصحافة رافد أساس من روافد الوعي والفكر وتشكل الرأي.. وكانت الرأي العام، وكانت الطليعة، وكانت الرائد.. كل هذه الكتابات. أنت الآن بعد هذا العمر المديد بإذن الله، كيف تنظر للخصومة في الكلمة.. كيف كانت بينكم؟
في الحقيقة ما حاولنا فتح هذا الباب. كان هناك الإرشاديون والعلويون، طبعاً كثير كتبوا، ناس كُتاب من جاوا ومن سيئون.. وكتاب على مستوى.. لم يكن هناك شتائم.. لكن كان الواقع.. كان واقع العلويين معروف وواقع الإرشاديين معروف.. الحركات الإرشادية.. كنا على علاقة وصداقات مع هؤلاء الناس، المجال مفتوح في الصحيفة.. الذي ينشر في الرائد.. معروف خط الرائد.. ونحن في الطليعة.. وكانت تأتينا كثير مقالات من السعودية ومن الكويت.
هذه التجربة.. ثمان سنوات.. تستطيع الآن أن تعطيني مجموعة من الأعلام التي كانت هي طليعة (الطليعة)، من هي؟ طبعاً الأستاذ الكبير أحمد عوض باوزير هذا لا شك، وشقيقه الأستاذ سعيد عوض باوزير.
طبعاً الأخ سعيد كان له دور كبير.
هذه التجربة عند الراحل سعيد عوض باوزير طبعاً طبعت الآن كثير من الكتب مما أنتجه في تلك الفترة من كتابات ومقالات. من طليعة (الطليعة) غير الوزيرين؟
أنا أعتقد كل المفكرين المثقفين والخريجين كانوا يكتبون.. البعثي والاشتراكي والقومي (يضحك) أنا شخصيا ما كان عندي القومية بمعنى التعصب طبعاً كقومية عربية كان الكل قوميين.
كان الكل يقبلها ولا يعارضها ولكن ليس في زاويتها الضيقة.
أبداً أبداً نحن منفتحين (صمت) الحقيقة لا أحد كان يكتب ضدنا بالمكشوف.. ولكن من خلال التعمية. حتى كان البعض ينتظرون أن الطليعة تسقط في فترة قصيرة!
طيب، أستاذ أحمد، الريادة في أي مجال إبداعي حمل ثقيل لربما لا يستطيع البعض أن يحمله. أنت وكنت وما زلت لنا قيمة اجتماعية وقيمة ثقافية وقيمة فكرية وقيمة صحفية. هل ترى أن تجربتكم هذه ساهمت في خلق تلاميذ لها موجودين الآن في الصحافة الحضرمية؟
أعتقد ساحة كبيرة من المثقفين وخريجي المراحل الدراسية كلها.. حتى الناس الذين لا يستطيعون أن يقرأوا نحن كنا في الطليعة أسبوعياً يوم صدور العدد وقت المغرب كنا نرى الأطفال يأتون بغوا الطليعة ويسألون: شي طليعة؟ أو في الحقيقة كانوا يسمونها اسم ثاني مش الطليعة! كان إقبال شي طيب.. كلهم يقرأون. أيضاً هناك شعر شعبي، والكتابات، والقصص.. وجهنا وأفدنا الكثيرين وتربى الكثيرون في الطليعة. أنا نفسي استفدت من الكتابة.. وفيما بعد تكونت عندي مكتبة وأقوم باتصالات وأروح إلى عدن وغير عدن.. أعتقد هذه فترة الثمان سنوات كانت شيء كبير، ولكن هؤلاء حاولوا اغتيالها.. بعدين أنا قلت خلاص ماشي فائدة. أظن مرة أتى عبدالفتاح إسماعيل بعد الاستقلال.. كان هناك حفلة وحضرت أنا فكلمني مع جماعة.. قلنا له الآن أغلقوا الصحف بصورة مؤقتة، وسألنا إلى متى؟
أنتم أعتقدتم أنه إجراء احترازي.
حتى كان واحد في الحزب إلا أنه من إندونيسيا، قال: هذا ياخي باوزير هذا حزب ماشي فيه صحافة. قلنا خلاص ماشي صحافة (يضحك).. الحمد لله.
طيب، خطوة الإغلاق هذه في تلك الفترة ربما يكون التوجه له مبرراته فيها. لكن أنت اليوم هل تجد أنها جنت فعلاً على التوجهات وعلى التيارات الفكرية وعلى نموها وعلى مسألة الحوار؟
طبعاً لا شك في هذا.. تلك الكتابات كلها.. الوعي الاجتماعي والوعي السياسي.. لا أحد يستطيع أن ينكر هذا.. هم أنفسهم حتى في الحزب كانوا يشعرون بهذا. وبعدين ما شي داعي.. طبعاً أولاً أغلقوا الصحيفة وجلسنا بدون عمل وبعدين بعد إغلاق الصحيفة صادروا المطبعة.. كانت مطبعة عادية، ولا اعتذار ولا شيء. وبعد ذلك بعد الوحدة طالبت بتعويض لها ولكن ماشي فائدة.. إلى الآن لا نتيجة.
لا شك كما قلنا هذه التجربة تاريخ ولكنه تاريخ مازال تأثيره في واقع اليوم. طيب، الطليعة ثمان سنوات لا شك أنها كما قلت أنت عرضت الكثير من القضايا على المستوى الاجتماعي والثقافي والفني والرياضي والفكري. العناوين البارزة في محطات الطليعة خلال الثمان سنوات.. ما هي القضايا التي وجدت أنت أن الطليعة كان لها دور مهم جداً في كشفها للرأي العام وفي نفس الوقت في توعية الرأي العام بها. مثل ماذا؟
مثل أولاً هذي العادات والتقاليد.. كان واحد عبد في تريم كانوا يسمونه... ( ربما يقصد الشخص الذي عرف بمول الخاتم ) هو أصلاً كان راعي غنم وصار الناس يقصدونه لمعالجة أمراضهم. وبعدين شنينا حملة عليه وعلى الشعوذة ومسألة القبور. حتى كان هناك عضو في مجلس الدولة تاجر راح أيضاً إلى هذا العبد في تريم، فانتقدناه وهناك آخرين انتقدوه أنه رجل مسؤول وعقليته تصل إلى هذا المنحدر! فالصحيفة حققت فعلا كسر الـــ...
هل نستطيع بمصطلحات العصر أن نطلق عليكم أنكم ليبراليو تلك الفترة، يعني كان عندكم توجهات فيها شيء من المدنية والتحضر وإن كانت وفقاً وفقه الواقع.. وفقاً ومقومات الأمة لم تخرج عن هذه الأمور، لكنها فيها شيء من الانفتاح على الحضارة وعلى المدنية.. هل نستطيع أن نضع هذا العنوان؟
لا شك أن الطليعة كانت تعبر عن هذا. أنت عندما تقرأ مقالات الشيخ سعيد، وهي قد طبعت، تلاحظ الفكر.. المتقدم!
نعم، قرأناها، يكاد يكون يخاطب الواقع الموجود اليوم.
طيب إذا أردنا أن نقف عند محطة مهمة جداً لا شك أن صحافة حضرموت في ذلك الوقت قد استعرضتها وغطتها، ولكن الطليعة لا شك أنها ستكون هي الكلمة الفصل في هذا.. قضية رحيل الفنان محمد جمعة خان في 25 ديسمبر 1963م، والطليعة طبعاً ستكون في عنفوانها ومجدها وقوتها في تلك الفترة. كيف غطت الصحيفة هذا الحدث الذي جثم على صدر المكلا وحضرموت عامة آنذاك؟
هو في الحقيقة محمد جمعة خان كان جارنا، كنا نسكن بجوار بعض. وهو رجل فنان معروف وشعبي.. وبعدين بالنسبة للفن كان لدينا محررون للصفحة الفنية وحتى في المناسبات كنا نستقدم الفنانين من عدن.. جاء محمد مرشد ناجي وكثير من الإخوان وبلفقيه جاء مرة، كان هناك انفتاح على الجميع. بعضهم يقولون أنتم لم تهتموا بمحمد جمعة، بالعكس نحن في بعض الحفلات دعوناه وكان فعلاً يحضر.
حدث رحيله.. يوم وفاته، كيف غطته الصحافة في المكلا؟
بعد وفاته هناك كتابات كثيرة..
يعني تم تغطية الحدث بشكل كبير. أنا قرأت أحد المقالات التي نشرت في الطليعة في كتاب المرحوم سعيد عوض باوزير الذي أصدره نجيب فيما بعد (الثقافة وسيلتنا إلى الكفاح)، هذا المقال أعطى محمد جمعة حقه واعتبره رمزاً فنياً كبيراً جداً ويكاد يكون انتقد السلطة وانتقد الواقع القائم لأن الرجل أهمل في فترة حياته الأخيرة. كيف اليوم يتداعى هذا المشهد سواء على مستوى الصحافة أو المستوى الحياتي.. وهو كما قلت أنت كان جاركم؟
جار وصديق من قبل. عندنا كتابات وكنا متأثرين برحيل محمد جمعة، وطالبنا بمساعدة أهله. وكان عندنا محرر فني اسمه كبشي من عدن، كان يكتب حلقات كثيرة، وأيضاً عبدالعزيز بن ثعلب كتب عن محمد جمعة كتابات. وأيضاً محمد سعد جاء مرة دعوناه.. والفنان الكبير عبدالرب إدريس.. هذا كان من فناني الصحيفة.
كثير من مقالات الشيخ سعيد عوض كانت في اتجاه تقديمه كموهبة.
حتى بعضهم قالوا لماذا أنتم ميالون إلى عبدالرب (يضحك) يعني من ضمن الخلافات التقليدية بين الصحف.
لكن اليوم يا أستاذ أحمد إذا أردنا أن نعود إلى الخميس 25 ديسمبر 63 ورحيل هذا العملاق الفني، ماذا تقول أنت عن تجربة الرجل خاصة وله تجربة كبيرة جداً في كلاسيكيات الأغنية الحضرمية.. كيف تنظر إلى تجربته وإلى صدى هذه التجربة؟
محمد جمعة فعلاً صوت وموهبة.. يمتلك صوتاً قوياً ويختار القصائد الشعرية التي على مستوى رفيع وليس الأشعار هذي الهابطة، وكان يحيي السهرات في المكلا.. كانت الجماهير تغطي المكان الذي يسهر فيه وتهتف بالتصفيق والإعجاب. كان فناناً حقيقياً وأصيلاً، وهو رجل محترم وكل الناس يحبونه.. رجل كان بسيطاً يخرج إلى السوق. فكنا نغطي كل الأحداث طوال تلك الفترة منذ أن بدأت الطليعة، كنا نتابع.. والعلماء الذين توفوا والحركة الاقتصادية وغيره. أنت لو ألقيت نظرة عامة ستلاحظ هذا.
أحمد عوض باوزير بعد إغلاق الصحيفة في 67 دخل في منعطف آخر. كان يمكن أن ينعزل أو ربما يحبط أو شيء من هذا القبيل. لكنك استطعت أن تتماشى وأن تعيد لذاتك الألق على مستوى الكتابة وعلى مستوى الحضور. كيف تصف هذه المرحلة في حياتك؟
عندما حصل إغلاق الصحيفة في البداية كانوا يواعدوننا.. ولكن بعد ذلك وجدت أن لا فائدة.. قالوا خلاص – توّكم - (يضحك) قفلوا حقنا المطبعة وكنا نتابع من أجل استعمالها لعمل تجاري على الأقل ولكن ما كان هناك استجابة ولا شيء. يعني فترة مرت كنا بحالة صعبة، خاصة وأن الواحد عنده عائلة. فعلاً مرت سنوات على هكذا، حرام.. لو كان عندهم أي شيء على الجريدة كان يمكن أن يحاكموا مثلاً هذا الشخص.. أبداً ولا شيء. رحنا اتصلنا إلى صنعاء بعد الوحدة كان هناك فرج بن غانم وزير وغيره من الجماعة. وكان معنا وقف كثير من الكتاب والصحفيين من بينهم واحد كان في عدن عندما كنت في الأيام، كان يدرس في الثانوية وكان يأتي إلى مكتبي.. صحفي بارز وحتى الآن ما زال يكتب على ما أظن.. وبعدين كتب عني ونشر مقالات هنا وأنني أنا الذي قدمته إلى الصحافة وكتب كلام جميل في الحقيقة (يقصد الصحفي الأستاذ صالح الدحان الذي كتب مقالاً طويلاً عنه في صحيفة المسيلة)
أنا أقصد أنت استطعت في الفترة من 67 إلى 90 أن تقدم كثيراً من عصارة فكرك وبحثك ومنها الكثير من الكتب بما في ذلك من ضمن الكتب التي قرأتها (الشعر الوطني العامي)، وكان كتاب لافت على صغره أن تلتقط هذه القصائد التي كانت معبرة عن روح الأمة والناس والبسطاء وتعكسها في كتاب تحليلي قرائي جميل جداً. أي أنك لم تستسلم. هذه التجربة في العمل الرسمي وفي ظل شعورك بأنك أنت كنت قيمة مستقلة بذاتك.. كيف استطعت أن توازن في هذه المرحلة؟
أنا كان عندي الميل الثقافي من بدري ربما من بعد تخرجي من المرحلة الابتدائية كان عندي شوق للصحف.
أين درست الابتدائية، أستاذ أحمد؟
في غيل باوزير.
والمتوسطة أيضاً؟
أنا لم أدخل الوسطى أبداً. أكملت الابتدائية فقط. الوسطى في الحقيقة كان هناك معارضة من الوالد تقريباً مع إن الأخ سالم عوض درس في الوسطى وأنا كنت آتي عندهم دائماً وأحضر معهم أثناء الاجتماعات المدرسية مع المدرسين السودانيين. أحضر بعض الجلسات ونسمع الأخبار.. كانوا أصدقاءنا حسين خوجلي وعوض عثمان ومجموعة. فكانت ثقافتي في تلك الفترة على مستوى الخريجين.
يعني مثقف عصامي كونت نفسك ووجدت أن الحياة والعمل مقياس حقيقي للمثقف.
الآن لا شك أنك تستمتع بالتاريخ البعيد والتاريخ المعاصر وترى فيه ذاتك الآن. نحن كجيل نحاول قدر المستطاع أن نمشي على خطاكم لعل وعسى بإذن الله أن نترك شيئاً في يوم من الأيام نفتخر به كما فعلتم. بماذا تنصح حملة القلم في حضرموت اليوم؟
في الحقيقة طبعاً أهم شيء هو القراءة. نحن كنا في المكتبة السلطانية نذهب من العصر ونجلس إلى ما بعد المغرب، وكان القراء الذين يأتون قلة اثنين ثلاثة.. وحتى اليوم القراءة مازالت ضعيفة. القراءة هي أهم شيء، لا يستطيع الإنسان أن يتميز في جانب أو يرتقي إلا بالثقافة. لنأخذ مثلا محمد عبد القادر بامطرف درس مرحلة ابتدائية في الشحر ولكن تعال شوف كتاباته واطلاعه. كثير من الأدباء كانوا بهذه الطريقة.. أيضاً حتى سعيد باوزير درس في المعهد في الرباط، وكان على علاقة بأحمد سالم باعشن الذي كان عنده كتب حديثة وكان يرسل منها للأخ سعيد ثم واصل قراءاته وذهب إلى أسمرا.. كتب المنفلوطي وساطع الحصري وأسماء كثيرة.
يعني كنتم وكانت حضرموت على رغم صعوبة المواصلات في تلك الفترة وعدم وجود اتصالات إلا أنها كانت شغوفة بالتواصل مع العواصم العربية المنتجة للثقافة. هل كانت هذه خصيصة في حضرموت لم تعد موجودة الآن؟
شوف أنت المكتبات الأهلية. أنا عندما كنت في المركز اليمني عملنا فهرسة للبحوث التي صدرت والكتب الموجودة والمخطوطات.. فكانت فعلاً توجد طبقة مثقفة على نطاق واسع. ومصر لها دور كبير.. كل الشعراء والأدباء وكتاب القصة وكل الاتجاهات والأفكار.. كانت ثقافة حقيقية.
هذا العمل الرسمي الذي أشرت إليه.. جانب التوثيق والأرشفة. هل حفظ هذا ومازال محفوظاً الآن في الهيئة العامة للآثار والمتاحف أم أنه ذهب هباء أو شيء من هذا القبيل؟
بالنسبة للآثار هناك بعض التقارير التي عملها الأجانب.. أنا كنت في المركز.. في الحقيقة لا يوجد إنتاج من الباحثين هنا. كان في عدن علي عقيل بن يحيى وعبدالله محيرز، أصدقاؤنا وكانوا يأتون إلى هنا ونخرج معهم.. محيرز رجل ممتاز في البحث والفكر ومنظم. كانت هنا شخصيات لكنهم قلة، كان مثلا الشيخ عبدالقادر الصبان كان يكتب كتابات عامة وفيها طبعاً فكر إلى جانب بامطرف ومجموعة في حضرموت موجودين.
أتعبتك وأجهدتك ولكن هناك سؤال أخير، أستاذي العزيز، أتمنى أن نأتنس برأيك الآن ونضج التفكير لديك. كيف ترى حضرموت اليوم.. هل يخالجك عليها على تاريخها على تراثها على هويتها خوف أم أنك مطمئن إلى أن القادم لحضرموت هو الأفضل؟
أنا رأيت ورقة مطبوعة كنت نشرت مقال وكنت زعلان عندما أكتب عن الوضع وكان فيها فعلا روح التشاؤم. في الحقيقة أنا مش متشائم لكن الأمور بهذه الصورة في الدوائر ومع الناس..!
يعني كثير من المواضع تحتاج إلى إعادة نظر..؟.
جدا بلا شك.. مع الأسف.. الحضارم كانوا في البداية مؤسسين.. في تريم وفي المكلا كان هناك باحثون وناس مهتمون بالبلد ومستقبلها. الآن يوجد تفكك والناس يبحثون عن المعيشة. لكن إن شاء الله الدنيا بخير مادام الجامعات بدأت تتوسع.. زمان كان لا يوجد إلا الابتدائية والوسطى.
طيب الآن سؤال جاء وليد اللحظة.. اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في المكلا ماذا تقول عن السكرتارية التي أنت اقتربت منها وهم اقتربوا منك وتشرفوا بك وأنست إليهم.. سواء كان الدكتور سعيد الجريري أو الدكتور عبدالقادر باعيسى أو ..، كيف تصف هذه التجربة؟
في الحقيقة الدكاترة لهم إسهامات طيبة. مثلا هذه المجلة (آفاق حضرموت) فيها كتابات طيبة ومهذبة ومثقفة. والله ما قصروا.. الجريري عرفته وكم مرة جاء إلى عندي لكنهم سيحبطون إذا لم يوجد تعاون. والله أولاد الواحد فعلا يتشرف بهم.. مرات جاءوا إلى عندي الشباب كلهم.
أكثر من مرة نعم، وكنا نتشرف بأن نأتيك بالنسخة الأولى من (حضرموت الثقافية) عندما تصدر.
وكتبت في المجلة معكم. بالمناسبة أنت مدرس في الجامعة؟
لا، أنا مدير الإعلام التربوي بالمحافظة، في الإدارة العامة للتربية، مع محمد ابنك. شكراً جزيلاً لك.
فرصة طيبة. في الحقيقة أشياء كثيرة لا يستطيع الواحد أن يقولها.. نلتقي إن شاء الله.
منذ أن كنت في الغيل قبل أن أتحول إلى المكلا ومن ثم إلى عدن، كان عندي تطلع إلى الصحافة. وكنت أكتب مجلات خطية. كان هناك مجلة أصدرتها في الغيل كان اسمها (الأستاذ) وكنت أوزعها على مدرسي الوسطى. وكان ذلك بعد انتقال الوسطى من المكلا إلى الغيل في عام 1944م. ثم انتقلتُ إلى المكلا وبدأت أكتب في بعض الصحف المطبوعة الأسبوعية مثل صحيفة المنبر، كانت صحيفة متميزة رئيس تحريرها الشيخ عبدالله سعيد باعنقود وسكرتير التحرير عمر مثنى من الشباب الناهض. كانت مجلة مطبوعة لكنها محدودة ولم تستمر ولم تكن لها علاقة بالسياسة. كانت فقط عبارة عن كتابات ثقافية علمية تاريخية أدبية. وبعد أن ذهبت إلى عدن التحقت فترة بالعمل مع الشيخ علي محمد باحميش، وهو رجل عالم وكان مدير مدرسة بازرعة الخيرية وقد درّست أنا أيضاً في مدرسة بازرعة. وكان الشيخ باحميش يصدر صحيفة الذكرى وهي صحيفة دينية، فكنت أذهب في المساء إليه في البيت وأصحح المقالات وأقوم بالتبويب وما إلى ذلك. بعد ذلك عملت في النهضة التابعة لعبد الرحمن جرجرة. وكان فيها عبدالله باذيب وأحمد باخبيرة ومجموعة من الصحفيين الذين كان لهم دور. اشتغلت مع جرجرة في أوقات بعد الظهر، العصرية، وكنا نجلس مع الجماعة ومنهم عبدالله باذيب الشخصية التقدمية وأخوه علي عبدالرزاق باذيب الاشتراكي.
الانتقال إلى عدن كان محطة مهمة جداً بالنسبة لك في توجهاتك الصحفية. كانت البدايات على مستوى الغيل ثم على مستوى المكلا. ثم جاءت المحطة الحقيقية وهي عدن التي كانت داخلها أيضاً محطات صغرى . . مرحلة باحميش ومرحلة جرجرة، ثم جاءت النقلة الكبرى. كيف جاءت هذه؟
الحقيقة أنه حتى عندما كنت في المكلا كنت أتابع كتابات عبدالله باذيب في النهضة وهو كان دائماً مهتماً بالوضع الثقافي والسياسي، مثلاً في قضية حادثة القصر التي أصدرت عنها فيما بعد كتاباً بعنوان (شهداء القصر).
نقف قليلاً، أستاذ أحمد، عند مسألة الحادثة والكتاب. حادثة القصر المعلوم أنها وقعت في عام 1950م. فهل عندما وقعت الحادثة أتيت من عدن لتغطيتها فكان أن امتلكت كثيراً من الحيثيات؟
أنا كنت في المكلا في ذلك الوقت. كنت في المدرسة الغربية بجانب المستشفى، ومع المظاهرة حوصرنا داخل المدرسة وأخرنا خروج الطلبة إلى وقت العصر.
ما هي تداعيات هذا المشهد على ذاكرتك الصحفية وأنت مازلت فتى صغيراً؟
الحزب الوطني تأسس لأول مرة حزب من خيرة الشباب، فيه عبدالله سالم باعشن رجل قانوني، ومجموعة من الشباب. وبدا كأن القصر كان يؤيد هذا الاتجاه خصوصاً السلطان صالح بن غالب القعيطي رجل معروف بتوجهاته الإصلاحية. لكن الظروف بعد ذلك وما طرأ على الحزب نفسه من رغبة في تغيير الوضع. بدأوا يحسون أنه لا بد من خلخلة الوضع.
يعني السلطان رأى في مطالبهم بعض التوجهات السياسية التي ربما لا يتحملها الوضع في تلك الفترة
هو في الحقيقة لم يكن يتابع بنفسه ولكن الأشخاص الآخرين في الدولة هم الذين كانوا يمسكون بدفة الأمور.أنا كنت موجوداً في نفس الحادثة، كنا في المدرسة الغربية على مقربة. كان هناك كثير من الناس. وبالنسبة للحزب كان ضمنهم عمر مثنى وآخرون لا أتذكرهم، المهم كان هناك نشاط مهم وكانوا ينشرون كتاباتهم في الصحف العدنية التي كانت بدورها مهتمة بمتابعة التطورات. كان هناك أحد الصحفيين اسمه محمد عمر بافقيه كان سابقا في إندونيسيا صحفي متميز وساعد في نشر الرسائل إلى عدن. كانت هناك كتابات كثيرة متعلقة بالحزب. طبعاً كان حادث أليم وما كان ينبغي أن تؤدي الحالة إلى تلك الحادثة ولكن كان هناك تهور من المستشار وخوفوا السلطان أن هؤلاء سيأتون ويكسّرون وسيكون هناك خطر على حياته. والذي حصل أن القصر كان كله ممتلئ، وكانت مطالب المتظاهرين ومطالب الحزب إيجاد محلس تشريعي ومساعدات للفقراء. ثم تطور الموقف إلى المواجهة وكان رد الفعل غير معقول، إطلاق النار حاجة مكشوفة أمر من السلطان، في الحقيقة لم يكن من السلطان ولكن من المستشار بوستيد كان كل شيء بيده، أمر بإطلاق النار فتفرقت الجموع بعد ذلك. كانت فعلا روح وطنية في الحزب الوطني. وكان السلطان في ذلك الوقت في حضرموت الداخل (ورد في كتاب – شهداء القصر- أنه كان في الهند!) وطلبوا منه أن يسمح لهم بالتظاهر، وكان الأمير عوض موجود في غياب والده قال لهم أنا سأتصل بالوالد. فانتظَروا حتى يصل السلطان واستفادوا من مجيء السلطان من سيئون وخرجت مظاهرات نظمها الحزب الوطني خرجوا في مظاهرة سلمية، حتى عقال الحافة و. . جماعة المجلس البلدي شخصيات كثيرة خرجت. وقد تكون بعض الهتافات شديدة بعض الشيء، لأنه لم تكن هناك قيادة لأول مرة طبعاً مظاهرة بهذا الشكل وكانوا يتجهون في طريقهم إلى القصر مخترقين السوق العام وكانوا يطلبون من الناس أن يقفلوا دكاكينهم وأحيانا يشتدون معهم في الكلام، فاضطر الناس بعد ذلك إلى الإغلاق. وكل الناس خرجت إلى القصر وأصبح القصر ما شاء الله ممتلئ (يضحك). ثم حصل إطلاق النار وخاف الناس، حتى سدة المكلا أغلقت يقال بأمر من (بن سميدع) أو من المستشار حقيقةً، وأقفلوا أبواب القصر والناس مزدحمة وجرت محاولات تكسير.
وبعض الناس اتجهوا إلى البحر يبحثون عن مهرب.
بعض الأشخاص حاولوا أن يصعدوا إلى القصر إلى عند السلطان فوق وكان مجتمع مع أركان الدولة في غرفته الرئيسية وطبعاً منعوا من هذا. وهذا أدى إلى خوف السلطان فأبعده الموجودون عن المكان وكان هناك السوداني الشيخ القدال والشيخ عبدالله الناخبي وأعضاء مجلس الدولة. كان هذا موقف حرج، عملية الطلوع إلى القصر وكان هناك خوف من أن يحدث تخريب وفعلا قيل إن أصص الأشجار التي في القصر رميت وعبثوا بها.
كان الموقف يكاد يكون عبثياً!
ما فيش قيادات كلهم انسحبوا العقال.
هذه الحادثة تكاد تكون حتى اللحظة حادثة مفصلية في تاريخ حضرموت المعاصر والكثير عرض لها والكثير وضع لها أقاويل والكثير حللها والكثير أدان فيها شخصيات معينة وربما البعض حوكم بأثر رجعي لها ودفع الثمن بعد مراحل طويلة جداً. أنت اليوم وقد كتبت كتاباً في هذا الاتجاه تكاد تكون دخلت في جوانب تفصيلية فيه وحتى عملية المحاكمة والأحكام التي صدرت فيها. بعد هذا العمر الطويل، كيف ترى هذا المشهد، هل كان يجب أن يكون وهل كان بالإمكان تلافيه؟
في الحقيقة الطرفان كانا مخطئين، كان هناك تهور من الشباب والناس، وأيضاً السلطة رأت في الموقف خروج على طاعتها (يضحك) وأن هؤلاء ناس مارقون.
هل السلطة ما كان لربما عندها الإحساس بأن مثل هذه المواقف قد تحدث؟ يعني الخروج عن الطاعة بمثل هذا النزق يبدو لي أنها لم تكن مهيئة نفسها لمثل هذه المواقف فلذلك جاءت ردة الفعل انفعالية أكثر من اللازم؟
لأن السلطان صالح كان موجوداً، رجل يعتبر بمثابة كبير العائلة. .
ورجل له رصانته وقيمته وكاريزميته.
وعالم، ولكن لم يكن عنده الوعي المتطور أن الحكم سيكون ديموقراطياً، كان يرى أن القصر يُنظَر إليه باحترام وحتى عندما كان الناس يمرون عند القصر كانوا يفزعون ويمرون مسرعين كأن القصر بعبع (يضحك). فما كان هناك ذاك التقارب بين الشعب والوطنيين من جهة وبين السلطة الحاكمة.
لا شك أن الحادثة هذه إلى جانب أنها وضعتك في محك حقيقي وضمير الكاتب وضمير الصحفي تراكمت لديك مثل هذي الأحاسيس وأصبحت تشعر في داخلك بأن القلم كلمة والكلمة قيمة وموقف. هذه انتقلت معك إلى عدن، فكيف استطعت أن تترجم هذه المعاني، أستاذ أحمد، في مسيرتك الصحفية في عدن؟
طبعاً كنت في البداية في النهضة وكان عندي باب أكتبه، وكان هناك تناولات لحادثة القصر لأن الفترة كانت قريبة. والكتابات كانت واضحة ومع ذلك لا أحد يقدر يمسّك بشيء، وكان الأستاذ محمد بامطرف وكان محمد عمر بافقيه مراسل النهضة وهو صحفي من إندونيسيا ، جاوي. فكانت كتابات كثيرة ظلت فترة تنشر في النهضة وبعض الصحف الأخرى. هي فعلا حاجة مش بسيطة ونُقلت قوية لأنه ما كان أحد من قبل يقدر يتكلم حتى على رئيس إدارة مثلا.
طيب مشوار عدن، هذه الشخصية الحضرمية الشابة تبحث عن مكانة في عالم عدن، وعدن كانت هي قبلة الثقافة والحضارة والفن والصحافة على مستوى الجزيرة وليس على مستوى المنطقة فقط. كيف استطعت أن تكون اسماً مرموقاً في صحافة عدن في تلك الفترة؟ لا شك أن الإمكانيات التي لديك هي الفيصل الأول، ولكن كيف استطعت أن تشكل حضوراً في هذه المدرسة العدنية في الصحافة؟
أنا كنت أتردد على عدن وكنت مدرس هناك وألتقي بعبدالله باذيب ومجموعة من الشباب كانوا يجتمعون في بيت باسندوة واحد من الشباب ويتحدثون عن الاشتراكية و..
المبادئ الإنسانية بشكل عام!
ما كان هناك اتجاه للشيوعية. في الحقيقة عبدالله باذيب يعتبر المناضل الأول في الحركات الاشتراكية، كذلك أحمد سعيد باخبيرة وعلي باذيب. فكانت مجموعة فاهمة وواعية وتكتب بوعي. وكانت جماعة أخرى يردون عليهم في فتاة الجزيرة وصحف أخرى. ولكن هذ التيار كان بدأ ينمو وعبدالله باذيب كان فعلا متعمقاً في فهم الفكر الاشتراكي. كنا دائماً نتناقش عنده في المكتب وكان صدره واسع للحوار. وبعد أن أوقفت النهضة انتقل إلى تعز وحرر صحيفة الطليعة هناك. وعدن كانت في تلك الفترة بلد حضارية، المكتبات متوفرة والمحاضرات دائماً في الأندية والجمعيات.
إشعاع فكري وثقافي وصحفي في المنطقة كلها.
عدن بالذات، والجامعة كانت موجودة لأول مرة ( ؟) والمدارس والثانويات، وكانوا محتكين بالبلدان العربية مصر وسوريا، والخريجون الذين جاءوا في تلك الفترة انتشروا والمكتبات كانت مليانة بالكتب ما شاء الله.
الانتقال إلى صحيفة الأيام سكرتيراً لها، كيف جاءت هذه الخطوة بالنسبة لك؟
أنا كنت مع هيئئة التحرير في النهضة وكنت أتابع كتاباتهم الطيبة ونتناقش دائماً في الإدارة. بعد ذلك أغلقت النهضة، فأصدروا صحيفة اليقظة يومية وبقيت أعمل فترة إلى أن أسس باشراحيل الأيام. وجرجرة هو الذي أشار علي بأنه إذا باتنضم إلى صحيفة الأيام فهي فرصة طيبة سيكون لك دور. كانت هناك علاقات طيبة بين الأيام وجرجرة وجماعة باذيب وكانوا يكتبون في الأيام، وأنا كنت أكتب مقالاً افتتاحياً في تلك الفترة مع التأسيس.
أظن في 1958؟
أحمد عوض- صح وكنت قبلها وجدت فرصة لأعود إلى البلد وأتزوج وفعلا خرجت إلى حضرموت وتزوجت ورجعت مرة ثانية إلى عدن ثم جاءت فكرة إصدار الصحيفة. طبعا عاد ما شي استعدادات ولا فلوس ولا حاجة. لكن كان عندي ممارسات في عدن في أكثر من صحيفة، ووجدت القدرة عندي أن..
أن تبدأ خطوة حقيقية في حضرموت.
كانت فكرة جادة. حتى الجماعة والطلبة أمثال عوض عيسى والذين جاءوا من العراق استصعبوا هذه الخطوة في ظل قيود الحكومة ولا يوجد قانون صحافة فالسلطان هو كل شيء وله مطلق الصلاحيات. قلت لهم أنا مدرك هذا وقد اشتغلت في الصحافة وأنا قادر على أن أخوض هذه التجربة. وكان محمد عبدالقادر بامطرف في السكرتارية وبعض الإخوان. وقام بامطرف بدور فعلا في إصدار الترخيص للطليعة. وبعدين الحمد لله صادف أن أنشئت أول مطبعة تجارية في المكلا وهي مطبعة المستقبل شركة أهلية. طبعاً كانوا لم يصدروا بعد أي صحف وإنما بدأوا بطباعة أوراق تجارية. فتوجهت إليهم للتعاقد معهم على طباعة الصحيفة وكان هناك عمر مثنى وهو صديق وبعض المتنورين. وبعد حصولي على التصريح والاتفاق مع المطبعة خرجت إلى وادي حضرموت واتصلت ببعض الشخصيات ووجدنا اشتراكات منهم. كثير منهم تجاوبوا، بن عبيد الله السقاف و محمد بن حسين الكاف في تريم رجل معروف بحبه للدولة القعيطية. ثم عدت إلى هنا وكنا نطبع لدى شركة المستقبل وبقينا فترة سنة تقريباً ثم فكرنا نقيم شركة من بعض الإخوان منهم الشيخ محمد عوض باوزير في عدن وأنا أيضاً شاركت.
أول عدد يصدر والمانشيت وترويسة (الطليعة) تتذكر هذه اللحظات؟
طبعاً. وفي الحقيقة بعد أن أصدرنا أول عدد كان هناك بعض الأشخاص لا نقول لديهم أحقاد وإنما...
أصحاب العزائم المثبطة هؤلاء موجودون دائماً.
ولكن أنا كان عندي عزم مهما كانت أي معارضة وهكذا بدأنا الصحيفة. وكنت أكتب (الطليعة تقول) افتتاحية العدد أسبوعياً، وهناك مجموعة كبيرة من هذه الافتتاحيات إن شاء الله سنعدها للطباعة فيها مناقشات للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والحقيقة أنا كنت الوحيد في الصحيفة رئيس التحرير وسكرتير التحرير والمصحح، وكنت أخرج أبحث عن إعلانات واشتراكات من الصباح أحمل شنطتي وأقطع شارع المكلا وأمر على أصحاب الأعمال. وفيما بعد بعض الشخصيات في الحكومة مثل بامطرف وبعض المتأدبين شاركوا كثيرا بالمقالات التاريخية والاجتماعية، وبعد كده طبعاً جاءتنا رسائل من الداخل ومراسلين من الموظفين الذين يعملون عند النواب كانوا أسبوعياً يرسلون لنا أخباراً اقتصادية وغيرها وكذلك رسائل من الخارج من السعودية ومن عدن الكثير كانوا يكتبون وكان واحد اسمه بارجاء له كتب مطبوعة. كان عندي صندوق بريد في إدارة البريد كل يوم أمر هناك وأستلم المقالات والأخبار وطلبات الاشتراكات، كان الاشتراك عبارة عن 25 شلن في السنة. والحمد لله مشينا وفيما بعد أحضرت معي جماعة مساعدين ولكن بالنسبة للصحيفة كنت أنا الذي أجمّع الأخبار وأمر على الدوائر وكان معنا أيضاً إبراهيم باوزير في المطبعة. وبعدين الشلة بامطرف عوض عيسى والجماعة الذين تخرجوا التقينا معهم وهم في الحقيقة قد يكون لهم مذاهب أخرى ولكن من ناحية الثقافة والفكر كنا متقاربين.
يعني استطعت أن تشكل منها منظومة وطنية ذات اتجاهات لا نقول متشابكة ولكن فيها رؤى مختلفة وإن كانت الغايات تكاد تكون واحدة.
كثير شاركوا فعلاً وعندما رأوا رسوخ الصحيفة وسياستها ارتاحوا لها.
طيب، صدى هذه التجربة على الشارع؟
أنت عندما تقرأ الأعداد الأولى من الصحيفة تجد حتى من العلماء في حضرموت وفي السعودية وفي اليمن داخل وبرضه من إندونيسيا مقالات وترحيب ونحن نشرنا بعض الرسائل من شخصيات مختلفة.
يعني حدث غير عادي.. وأنت أحمد عوض باوزير من أسرة معلومة تماماً ومن مدينة الغيل وذات توجهات دينية. ألم يصدمهم اسم (الطليعة)؟
هو الطليعة طبعاً بعضهم يفسرونها بالشيوعية (يضحك) ولكن هذا الاسم في الحقيقة وأنا قادم من عدن في (ساعية) على ما أظن طرأ في رأسي اسم الطليعة (يضحك)، وعندما خرجت وقابلت بامطرف قال لي: يا أخي أيش هذا الاسم؟ فقلت له: هذا الاسم إن شاء الله سيستمر ويدوم فكانت (الطليعة) فعلا طليعة لمجتمعها.
لا شك أن التجربة أغرت الكثير بالولوج إلى هذا العمل. فكانت الطليعة هي طليعة استفزت آخرين للدخول في الساحة. كيف كانت النقلة التي تزامنت فيما بعد وأصبحت بدلاً من أن تكون صحيفة واحدة هي الطليعة، أصبحت أكثر من صحيفة تصدر من مدينة المكلا فقط كالرائد والرأي العام وهذه جاءت بعد مراحل. كيف تنظر لهذه الفترة؟
أظن أن هناك من كان غير متقبل الوضع أن باوزير يصدر صحيفة ويبدو أنه كان هناك تفكير لإصدار صحيفة أخرى. ولكن جئت أنا وكان اتفاقي اتفاق عادي واتفاق تجاري، وهم قالوا إن باوزير وجد ناس يساعدونه (يضحك). وفي الحقيقة كنا أصدقاء ويومياً نلتقي في المطبعة مع حسين محمد البار.. رجل عاقل..
أديب شاعر ومحامي. لكن.. الطليعة، الرائد، الرأي العام صحيفة علي عبدالرحمن بافقيه وجاءت فيما بعد الجماهير. كيف تقبل الشارع التنوع والتلون في الاتجاهات الصحفية في حضرموت في تلك الفترة على عدم انتشار التعليم بشكل كبير، ولكن كانت قيمة الصحافة قيمة كبرى.. كيف تراها؟
أولاً الطليعة هي الوحيدة التي استمرت ثمان سنوات.. مستمرة. الرائد استمرت سنة وشوية وعلي بافقيه استمر فترة قصيرة وأيضاً الجماهير. نحن كنا نرسل إلى السعودية أكثر من أربعمائة عدد، كان عندنا واحد هناك يوزع. وعندنا اشتراكات حتى إلى لندن وإلى أمريكا هناك مشتركين في الطليعة. وفي نهاية الأسبوع عندما تصدر الصحيفة نجتمع في البيت، يأتي سالم يعقوب باوزير وإبراهيم باوزير مجموعة أصدقاؤنا ونجلس نعطّف الجريدة نعمل عليها ورق مطبوع فيه أسماء المشتركين، وفي الصباح كنت أنا أخرج ومعي كرتون (يضحك) يحتوي على تلك الأعداد وأتوجه إلى إدارة البريد كانت في مكان قريب. واستمرت الصحيفة واشتراكات كثيرة ورسائل تأييد.. في الحقيقة الواحد يفخر بهذا.
التجربة هذه يكاد يكون تجربة رائدة ولكنها لم يكن لها صدى كبير جداً فيما بعد خاصة وفقاً والظروف السياسية التي عاشتها البلد. لكن أنا أقصد فترة من 59 إلى 67، هذه الثمان السنوات كانت الصحافة رافد أساس من روافد الوعي والفكر وتشكل الرأي.. وكانت الرأي العام، وكانت الطليعة، وكانت الرائد.. كل هذه الكتابات. أنت الآن بعد هذا العمر المديد بإذن الله، كيف تنظر للخصومة في الكلمة.. كيف كانت بينكم؟
في الحقيقة ما حاولنا فتح هذا الباب. كان هناك الإرشاديون والعلويون، طبعاً كثير كتبوا، ناس كُتاب من جاوا ومن سيئون.. وكتاب على مستوى.. لم يكن هناك شتائم.. لكن كان الواقع.. كان واقع العلويين معروف وواقع الإرشاديين معروف.. الحركات الإرشادية.. كنا على علاقة وصداقات مع هؤلاء الناس، المجال مفتوح في الصحيفة.. الذي ينشر في الرائد.. معروف خط الرائد.. ونحن في الطليعة.. وكانت تأتينا كثير مقالات من السعودية ومن الكويت.
هذه التجربة.. ثمان سنوات.. تستطيع الآن أن تعطيني مجموعة من الأعلام التي كانت هي طليعة (الطليعة)، من هي؟ طبعاً الأستاذ الكبير أحمد عوض باوزير هذا لا شك، وشقيقه الأستاذ سعيد عوض باوزير.
طبعاً الأخ سعيد كان له دور كبير.
هذه التجربة عند الراحل سعيد عوض باوزير طبعاً طبعت الآن كثير من الكتب مما أنتجه في تلك الفترة من كتابات ومقالات. من طليعة (الطليعة) غير الوزيرين؟
أنا أعتقد كل المفكرين المثقفين والخريجين كانوا يكتبون.. البعثي والاشتراكي والقومي (يضحك) أنا شخصيا ما كان عندي القومية بمعنى التعصب طبعاً كقومية عربية كان الكل قوميين.
كان الكل يقبلها ولا يعارضها ولكن ليس في زاويتها الضيقة.
أبداً أبداً نحن منفتحين (صمت) الحقيقة لا أحد كان يكتب ضدنا بالمكشوف.. ولكن من خلال التعمية. حتى كان البعض ينتظرون أن الطليعة تسقط في فترة قصيرة!
طيب، أستاذ أحمد، الريادة في أي مجال إبداعي حمل ثقيل لربما لا يستطيع البعض أن يحمله. أنت وكنت وما زلت لنا قيمة اجتماعية وقيمة ثقافية وقيمة فكرية وقيمة صحفية. هل ترى أن تجربتكم هذه ساهمت في خلق تلاميذ لها موجودين الآن في الصحافة الحضرمية؟
أعتقد ساحة كبيرة من المثقفين وخريجي المراحل الدراسية كلها.. حتى الناس الذين لا يستطيعون أن يقرأوا نحن كنا في الطليعة أسبوعياً يوم صدور العدد وقت المغرب كنا نرى الأطفال يأتون بغوا الطليعة ويسألون: شي طليعة؟ أو في الحقيقة كانوا يسمونها اسم ثاني مش الطليعة! كان إقبال شي طيب.. كلهم يقرأون. أيضاً هناك شعر شعبي، والكتابات، والقصص.. وجهنا وأفدنا الكثيرين وتربى الكثيرون في الطليعة. أنا نفسي استفدت من الكتابة.. وفيما بعد تكونت عندي مكتبة وأقوم باتصالات وأروح إلى عدن وغير عدن.. أعتقد هذه فترة الثمان سنوات كانت شيء كبير، ولكن هؤلاء حاولوا اغتيالها.. بعدين أنا قلت خلاص ماشي فائدة. أظن مرة أتى عبدالفتاح إسماعيل بعد الاستقلال.. كان هناك حفلة وحضرت أنا فكلمني مع جماعة.. قلنا له الآن أغلقوا الصحف بصورة مؤقتة، وسألنا إلى متى؟
أنتم أعتقدتم أنه إجراء احترازي.
حتى كان واحد في الحزب إلا أنه من إندونيسيا، قال: هذا ياخي باوزير هذا حزب ماشي فيه صحافة. قلنا خلاص ماشي صحافة (يضحك).. الحمد لله.
طيب، خطوة الإغلاق هذه في تلك الفترة ربما يكون التوجه له مبرراته فيها. لكن أنت اليوم هل تجد أنها جنت فعلاً على التوجهات وعلى التيارات الفكرية وعلى نموها وعلى مسألة الحوار؟
طبعاً لا شك في هذا.. تلك الكتابات كلها.. الوعي الاجتماعي والوعي السياسي.. لا أحد يستطيع أن ينكر هذا.. هم أنفسهم حتى في الحزب كانوا يشعرون بهذا. وبعدين ما شي داعي.. طبعاً أولاً أغلقوا الصحيفة وجلسنا بدون عمل وبعدين بعد إغلاق الصحيفة صادروا المطبعة.. كانت مطبعة عادية، ولا اعتذار ولا شيء. وبعد ذلك بعد الوحدة طالبت بتعويض لها ولكن ماشي فائدة.. إلى الآن لا نتيجة.
لا شك كما قلنا هذه التجربة تاريخ ولكنه تاريخ مازال تأثيره في واقع اليوم. طيب، الطليعة ثمان سنوات لا شك أنها كما قلت أنت عرضت الكثير من القضايا على المستوى الاجتماعي والثقافي والفني والرياضي والفكري. العناوين البارزة في محطات الطليعة خلال الثمان سنوات.. ما هي القضايا التي وجدت أنت أن الطليعة كان لها دور مهم جداً في كشفها للرأي العام وفي نفس الوقت في توعية الرأي العام بها. مثل ماذا؟
مثل أولاً هذي العادات والتقاليد.. كان واحد عبد في تريم كانوا يسمونه... ( ربما يقصد الشخص الذي عرف بمول الخاتم ) هو أصلاً كان راعي غنم وصار الناس يقصدونه لمعالجة أمراضهم. وبعدين شنينا حملة عليه وعلى الشعوذة ومسألة القبور. حتى كان هناك عضو في مجلس الدولة تاجر راح أيضاً إلى هذا العبد في تريم، فانتقدناه وهناك آخرين انتقدوه أنه رجل مسؤول وعقليته تصل إلى هذا المنحدر! فالصحيفة حققت فعلا كسر الـــ...
هل نستطيع بمصطلحات العصر أن نطلق عليكم أنكم ليبراليو تلك الفترة، يعني كان عندكم توجهات فيها شيء من المدنية والتحضر وإن كانت وفقاً وفقه الواقع.. وفقاً ومقومات الأمة لم تخرج عن هذه الأمور، لكنها فيها شيء من الانفتاح على الحضارة وعلى المدنية.. هل نستطيع أن نضع هذا العنوان؟
لا شك أن الطليعة كانت تعبر عن هذا. أنت عندما تقرأ مقالات الشيخ سعيد، وهي قد طبعت، تلاحظ الفكر.. المتقدم!
نعم، قرأناها، يكاد يكون يخاطب الواقع الموجود اليوم.
طيب إذا أردنا أن نقف عند محطة مهمة جداً لا شك أن صحافة حضرموت في ذلك الوقت قد استعرضتها وغطتها، ولكن الطليعة لا شك أنها ستكون هي الكلمة الفصل في هذا.. قضية رحيل الفنان محمد جمعة خان في 25 ديسمبر 1963م، والطليعة طبعاً ستكون في عنفوانها ومجدها وقوتها في تلك الفترة. كيف غطت الصحيفة هذا الحدث الذي جثم على صدر المكلا وحضرموت عامة آنذاك؟
هو في الحقيقة محمد جمعة خان كان جارنا، كنا نسكن بجوار بعض. وهو رجل فنان معروف وشعبي.. وبعدين بالنسبة للفن كان لدينا محررون للصفحة الفنية وحتى في المناسبات كنا نستقدم الفنانين من عدن.. جاء محمد مرشد ناجي وكثير من الإخوان وبلفقيه جاء مرة، كان هناك انفتاح على الجميع. بعضهم يقولون أنتم لم تهتموا بمحمد جمعة، بالعكس نحن في بعض الحفلات دعوناه وكان فعلاً يحضر.
حدث رحيله.. يوم وفاته، كيف غطته الصحافة في المكلا؟
بعد وفاته هناك كتابات كثيرة..
يعني تم تغطية الحدث بشكل كبير. أنا قرأت أحد المقالات التي نشرت في الطليعة في كتاب المرحوم سعيد عوض باوزير الذي أصدره نجيب فيما بعد (الثقافة وسيلتنا إلى الكفاح)، هذا المقال أعطى محمد جمعة حقه واعتبره رمزاً فنياً كبيراً جداً ويكاد يكون انتقد السلطة وانتقد الواقع القائم لأن الرجل أهمل في فترة حياته الأخيرة. كيف اليوم يتداعى هذا المشهد سواء على مستوى الصحافة أو المستوى الحياتي.. وهو كما قلت أنت كان جاركم؟
جار وصديق من قبل. عندنا كتابات وكنا متأثرين برحيل محمد جمعة، وطالبنا بمساعدة أهله. وكان عندنا محرر فني اسمه كبشي من عدن، كان يكتب حلقات كثيرة، وأيضاً عبدالعزيز بن ثعلب كتب عن محمد جمعة كتابات. وأيضاً محمد سعد جاء مرة دعوناه.. والفنان الكبير عبدالرب إدريس.. هذا كان من فناني الصحيفة.
كثير من مقالات الشيخ سعيد عوض كانت في اتجاه تقديمه كموهبة.
حتى بعضهم قالوا لماذا أنتم ميالون إلى عبدالرب (يضحك) يعني من ضمن الخلافات التقليدية بين الصحف.
لكن اليوم يا أستاذ أحمد إذا أردنا أن نعود إلى الخميس 25 ديسمبر 63 ورحيل هذا العملاق الفني، ماذا تقول أنت عن تجربة الرجل خاصة وله تجربة كبيرة جداً في كلاسيكيات الأغنية الحضرمية.. كيف تنظر إلى تجربته وإلى صدى هذه التجربة؟
محمد جمعة فعلاً صوت وموهبة.. يمتلك صوتاً قوياً ويختار القصائد الشعرية التي على مستوى رفيع وليس الأشعار هذي الهابطة، وكان يحيي السهرات في المكلا.. كانت الجماهير تغطي المكان الذي يسهر فيه وتهتف بالتصفيق والإعجاب. كان فناناً حقيقياً وأصيلاً، وهو رجل محترم وكل الناس يحبونه.. رجل كان بسيطاً يخرج إلى السوق. فكنا نغطي كل الأحداث طوال تلك الفترة منذ أن بدأت الطليعة، كنا نتابع.. والعلماء الذين توفوا والحركة الاقتصادية وغيره. أنت لو ألقيت نظرة عامة ستلاحظ هذا.
أحمد عوض باوزير بعد إغلاق الصحيفة في 67 دخل في منعطف آخر. كان يمكن أن ينعزل أو ربما يحبط أو شيء من هذا القبيل. لكنك استطعت أن تتماشى وأن تعيد لذاتك الألق على مستوى الكتابة وعلى مستوى الحضور. كيف تصف هذه المرحلة في حياتك؟
عندما حصل إغلاق الصحيفة في البداية كانوا يواعدوننا.. ولكن بعد ذلك وجدت أن لا فائدة.. قالوا خلاص – توّكم - (يضحك) قفلوا حقنا المطبعة وكنا نتابع من أجل استعمالها لعمل تجاري على الأقل ولكن ما كان هناك استجابة ولا شيء. يعني فترة مرت كنا بحالة صعبة، خاصة وأن الواحد عنده عائلة. فعلاً مرت سنوات على هكذا، حرام.. لو كان عندهم أي شيء على الجريدة كان يمكن أن يحاكموا مثلاً هذا الشخص.. أبداً ولا شيء. رحنا اتصلنا إلى صنعاء بعد الوحدة كان هناك فرج بن غانم وزير وغيره من الجماعة. وكان معنا وقف كثير من الكتاب والصحفيين من بينهم واحد كان في عدن عندما كنت في الأيام، كان يدرس في الثانوية وكان يأتي إلى مكتبي.. صحفي بارز وحتى الآن ما زال يكتب على ما أظن.. وبعدين كتب عني ونشر مقالات هنا وأنني أنا الذي قدمته إلى الصحافة وكتب كلام جميل في الحقيقة (يقصد الصحفي الأستاذ صالح الدحان الذي كتب مقالاً طويلاً عنه في صحيفة المسيلة)
أنا أقصد أنت استطعت في الفترة من 67 إلى 90 أن تقدم كثيراً من عصارة فكرك وبحثك ومنها الكثير من الكتب بما في ذلك من ضمن الكتب التي قرأتها (الشعر الوطني العامي)، وكان كتاب لافت على صغره أن تلتقط هذه القصائد التي كانت معبرة عن روح الأمة والناس والبسطاء وتعكسها في كتاب تحليلي قرائي جميل جداً. أي أنك لم تستسلم. هذه التجربة في العمل الرسمي وفي ظل شعورك بأنك أنت كنت قيمة مستقلة بذاتك.. كيف استطعت أن توازن في هذه المرحلة؟
أنا كان عندي الميل الثقافي من بدري ربما من بعد تخرجي من المرحلة الابتدائية كان عندي شوق للصحف.
أين درست الابتدائية، أستاذ أحمد؟
في غيل باوزير.
والمتوسطة أيضاً؟
أنا لم أدخل الوسطى أبداً. أكملت الابتدائية فقط. الوسطى في الحقيقة كان هناك معارضة من الوالد تقريباً مع إن الأخ سالم عوض درس في الوسطى وأنا كنت آتي عندهم دائماً وأحضر معهم أثناء الاجتماعات المدرسية مع المدرسين السودانيين. أحضر بعض الجلسات ونسمع الأخبار.. كانوا أصدقاءنا حسين خوجلي وعوض عثمان ومجموعة. فكانت ثقافتي في تلك الفترة على مستوى الخريجين.
يعني مثقف عصامي كونت نفسك ووجدت أن الحياة والعمل مقياس حقيقي للمثقف.
الآن لا شك أنك تستمتع بالتاريخ البعيد والتاريخ المعاصر وترى فيه ذاتك الآن. نحن كجيل نحاول قدر المستطاع أن نمشي على خطاكم لعل وعسى بإذن الله أن نترك شيئاً في يوم من الأيام نفتخر به كما فعلتم. بماذا تنصح حملة القلم في حضرموت اليوم؟
في الحقيقة طبعاً أهم شيء هو القراءة. نحن كنا في المكتبة السلطانية نذهب من العصر ونجلس إلى ما بعد المغرب، وكان القراء الذين يأتون قلة اثنين ثلاثة.. وحتى اليوم القراءة مازالت ضعيفة. القراءة هي أهم شيء، لا يستطيع الإنسان أن يتميز في جانب أو يرتقي إلا بالثقافة. لنأخذ مثلا محمد عبد القادر بامطرف درس مرحلة ابتدائية في الشحر ولكن تعال شوف كتاباته واطلاعه. كثير من الأدباء كانوا بهذه الطريقة.. أيضاً حتى سعيد باوزير درس في المعهد في الرباط، وكان على علاقة بأحمد سالم باعشن الذي كان عنده كتب حديثة وكان يرسل منها للأخ سعيد ثم واصل قراءاته وذهب إلى أسمرا.. كتب المنفلوطي وساطع الحصري وأسماء كثيرة.
يعني كنتم وكانت حضرموت على رغم صعوبة المواصلات في تلك الفترة وعدم وجود اتصالات إلا أنها كانت شغوفة بالتواصل مع العواصم العربية المنتجة للثقافة. هل كانت هذه خصيصة في حضرموت لم تعد موجودة الآن؟
شوف أنت المكتبات الأهلية. أنا عندما كنت في المركز اليمني عملنا فهرسة للبحوث التي صدرت والكتب الموجودة والمخطوطات.. فكانت فعلاً توجد طبقة مثقفة على نطاق واسع. ومصر لها دور كبير.. كل الشعراء والأدباء وكتاب القصة وكل الاتجاهات والأفكار.. كانت ثقافة حقيقية.
هذا العمل الرسمي الذي أشرت إليه.. جانب التوثيق والأرشفة. هل حفظ هذا ومازال محفوظاً الآن في الهيئة العامة للآثار والمتاحف أم أنه ذهب هباء أو شيء من هذا القبيل؟
بالنسبة للآثار هناك بعض التقارير التي عملها الأجانب.. أنا كنت في المركز.. في الحقيقة لا يوجد إنتاج من الباحثين هنا. كان في عدن علي عقيل بن يحيى وعبدالله محيرز، أصدقاؤنا وكانوا يأتون إلى هنا ونخرج معهم.. محيرز رجل ممتاز في البحث والفكر ومنظم. كانت هنا شخصيات لكنهم قلة، كان مثلا الشيخ عبدالقادر الصبان كان يكتب كتابات عامة وفيها طبعاً فكر إلى جانب بامطرف ومجموعة في حضرموت موجودين.
أتعبتك وأجهدتك ولكن هناك سؤال أخير، أستاذي العزيز، أتمنى أن نأتنس برأيك الآن ونضج التفكير لديك. كيف ترى حضرموت اليوم.. هل يخالجك عليها على تاريخها على تراثها على هويتها خوف أم أنك مطمئن إلى أن القادم لحضرموت هو الأفضل؟
أنا رأيت ورقة مطبوعة كنت نشرت مقال وكنت زعلان عندما أكتب عن الوضع وكان فيها فعلا روح التشاؤم. في الحقيقة أنا مش متشائم لكن الأمور بهذه الصورة في الدوائر ومع الناس..!
يعني كثير من المواضع تحتاج إلى إعادة نظر..؟.
جدا بلا شك.. مع الأسف.. الحضارم كانوا في البداية مؤسسين.. في تريم وفي المكلا كان هناك باحثون وناس مهتمون بالبلد ومستقبلها. الآن يوجد تفكك والناس يبحثون عن المعيشة. لكن إن شاء الله الدنيا بخير مادام الجامعات بدأت تتوسع.. زمان كان لا يوجد إلا الابتدائية والوسطى.
طيب الآن سؤال جاء وليد اللحظة.. اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في المكلا ماذا تقول عن السكرتارية التي أنت اقتربت منها وهم اقتربوا منك وتشرفوا بك وأنست إليهم.. سواء كان الدكتور سعيد الجريري أو الدكتور عبدالقادر باعيسى أو ..، كيف تصف هذه التجربة؟
في الحقيقة الدكاترة لهم إسهامات طيبة. مثلا هذه المجلة (آفاق حضرموت) فيها كتابات طيبة ومهذبة ومثقفة. والله ما قصروا.. الجريري عرفته وكم مرة جاء إلى عندي لكنهم سيحبطون إذا لم يوجد تعاون. والله أولاد الواحد فعلا يتشرف بهم.. مرات جاءوا إلى عندي الشباب كلهم.
أكثر من مرة نعم، وكنا نتشرف بأن نأتيك بالنسخة الأولى من (حضرموت الثقافية) عندما تصدر.
وكتبت في المجلة معكم. بالمناسبة أنت مدرس في الجامعة؟
لا، أنا مدير الإعلام التربوي بالمحافظة، في الإدارة العامة للتربية، مع محمد ابنك. شكراً جزيلاً لك.
فرصة طيبة. في الحقيقة أشياء كثيرة لا يستطيع الواحد أن يقولها.. نلتقي إن شاء الله.
المكلا اليوم