الخميس، 16 يناير 2014

هندسة المكان الإفتراضي منتجة لخطاب ثقافي

متابعات إعلامية / كتب / د.جمال الزرن : اكاديمي واعلامي تونسي
هل من الممكن أن تتنج هندسة الأمكنة خطابا ثقافيا؟ سؤال يثير إشكال الثقافي قبل جغرافية المكان. هل يمكن الحديث عن المكان الإفتراضي كمنتج هو الآخر لخطاب ثقافي؟ اصبحت تتشكل بفضل شبكة الإنترنت فضاءات تواصلية عدة هي بمثابة أمكنة إفتراضية، نتحدث عبر غرف الحوار والدردشة، منفردين  أو جماعات، بدون حدود وبدون تاريخ، ونتعامل مع هذه الفضاءات باعتبارها أمكنة، ذات شحنة ثقافية يكون الحوار والتواصل اساسها. أصبح للإفتراضي مكان، أي بعبارة أخرى أصبح المكان أكثر حضورا في المتخيل منه في الواقع الموضوعي، رغم الإقرار والإعتراف بواقعية شبكة الإنترنت ومحتواياتها. 
ويعتبر مصطلح هندسة المكان الإفتراضي مصطلحا حديث التداول الفكري، ويقصد به كل ما له صلة بهندسة الفضاء التخيلي، بشقه المادي والمتمثل في إبداع سبل جديدة في هندسة تكنلوجيات الإفتراضي وبشقه الإعتباري كما يذكر ذلك عابد الجابر في تعريفه لشبكة الإنترنت إذ يقول : "هذا العالم الجديد، عالم الإنترنيت، يضم جميع أنشطة عالمنا الواقعي المعتاد، أو في إمكانه أن يضمها جميعها ويضم أشياء جديدة أخرى، فقط مع هذا الفارق وهو أن جميع أشيائه وأنشطته تسمى بأسماء يسبقها أحد المقطعين، سيبر cyber، وتلي télé. الأول يدل على التحكم، والثاني معناه عن بعد. أما هوية الأشياء التي يحتويها والأنشطة التي تتم فيه فتتحدد بالوصف اعتباري: virtuel. ونحن نترجم هذه الكلمة بـ "اعتباري"، وليس بـ "افتراضي" أو "وهمي" حسب المعنى الأصلي للكلمة، لأن الأمر هنا يتعلق، ليس بمجرد وجود تصوري مفترض من صنع الخيال أو الوهم، بل بوجود واقعي مشاهد عبر الصورة والكلمة وجميع الرموز، ولكنه مع ذلك "اعتباري" (من العبور والاعتبار معا)، بمعنى أن الاتصال فيه يتم عن بعد وعبر رموز".
           وتثار في محيط هذه المفردة-الإفتراضي-سؤال لماذا تكون شبكة الإنترنت في حاجة أو منتجة لهندسة ذات خصوصية ثقافية تواصلية. هل هي مكان جديد للإنسان أم هي نهاية المكان بالنسبة للإنسان دائما. هل اصبحت الهندسة بالإضافة إلى القيمة التواصلية التي صاغت شهرة شبكة الإنترنت عنوان اللامكان. لم تعد بفضل شبكة الإنترنت مقولة "هنا" ذات دلالة رمزية بإعتبارها إحالة على ثبوتية المكان. عندما نبحر أو نعبر –حسب الجابري-في شبكة الإنترنت، وما مصطلح الإبحار او العبور إلا صيغة فاضحة على تجاوز المكان، نصنع المكان الذاتي والشخصي بالعودة إلى الرواسب الثقافية والمعرفية، نبحر في شبكة الإنترنت عندما نكون مراهقين إلى مكان الحب بحثا عن الدردشة، وعندما نكون باحثين نذهب إلى مكتبة الكونجرس ونحولها إلى مكان –ظرفي-في المكتب أو البيت، يحدث هذا إفتراضيا.

هل للمكان من مسائلة ما في غياب عنصرالزمن، وهنا يكمن ربما هذا التلاقي بين كل من الفضاء الإفتراضي والزمن الإفتراضي الذي يصعب حصره جماعيا ليتحول إلى قيمة فردية ذاتية لتعود فتنصهر في الإجتماعي أي في الآخر. في المكان التقليدي القائم على قاعدة الخارطة الطوبوغرافية، يؤسس الإنسان القديم لثقافته يساعده على ذلك زمن قابل للقياس (الساعة، اليوم، الشهر...)، واليوم في اللامكان أو في المكان الإفتراضي يؤسس الإنسان الجديد لثقافة جديدة تفاعلية قائمة على التزامن واللحظة. لا وجود لمكان في غياب الإنسان وتذكرنا هذه المقولة بحكاية الشجرة التي تسقط في الغابة فلو لا وجود إنسان ليسمع أزيز سقوطها لما علمنا بسقوط تلك الشجرة وهو مثل يعتمد كثيرا للدلالة على حتمية الإتصال : "لا يمكننا إلا أن نتواصل". إن مسائلة علاقة الثقافي بالمكان هي إحالة مرجعية على التعدد الكامن في الثقافي والذي يكون بالضرورة مصدره الإنسان بإعتباره كانئا ثقافيا، فكأن بالمكان تابع أو حيوان أليف للإنسان، وكذا الأمر بالمكان الإفتراضي، إذ أصبحنا نتحدث عن أمراض جديدة مثل التعلق المفرط بالهاتف الجوال، والتصفح الزائد لشبكة الإنترنت.
 يحيل المكان الإفتراضي إلى التكنلوجيا الفائقة الدقة، فكأن بالمكان الإفتراضي هو منتج تقني، ونعرف كل ما هو عالق من أحكام مسبقة على ان التقنية تسلب جوهر الثقافي بل تتعارض وتختلف معه. لكن المكان الإفتراضي المؤسس على المرجعية التكنولوجية الرفيعة يأتى ايضا حاملا بحكم فعل الإنسان لشحنة رمزية ثقافية كمحاولة لإستمالة التقني إلى الثقافي وتجنب الصراع والتعارض الأزلي القائم بينهما. يعتبر الفضاء التخيلي بمثابة اللامكان، فهو بذلك طيف معلوماتي حواسيبي، غير أن هذا اللامكان ينتفي من محيطنا، كان ذلك بصيغته الواقعية أو الإفتراضية، فالصيغ التشابكية (شبكة الإنترنت) تغيب عن الأنظار في حدها المادي، فلن نجد أنفسنا أمام هذه المعادلة في ما نسعى لتحسسه بل فيما ندركه كمكان. إن الهندسة لغة تمكن من خلال الرمزي وعبر المتخيل صناعة المكان القابل للعيش من قبل الجميع والمشبع لحاجة ما. كذلك الأمر في ما يتعلق بالهندسة الإفتراضية، فهي كذلك تستجيب إلى هذه الحاجة مع خاصية جديدة تتمثل في كونها لا تواجهها عوارض بحكم أن الإفتراضي لا فضاء له من المحتمل أن يعيق تشكله الثقافي حاجز ما، لذلك لا نجد معارضة قوية لمزايا الإنترنت الثقافية، ونشبع التلفزيون بكل نعوت التسطيح الثقافي والبلادة الفكرية.

 إن من بين مزايا الفضاء الإفتراضي كبديل إصطلاحي عن المكان الإفتراضي هو نهاية فوبيا المكان، إن الخوف من المكان دليل على تملكنا لمكان آخر، وعندما ندخل في منظومة المكان الإفتراضي نصبح لا نخشي شيئا بحكم عدم مقدرتنا على تملك الإفتراضي بإعتباره فضاء، لذلك وصفت شبكة الإنترنت كفضاء إفتراضي بأكثر الأمكنة تحررية، وهي تحررية تعود إلى عدم مقدرة أي طرف إمتلاكها، فالإبحار في شبكة الإنترنت يستوى فيه من يملك قصرا ومن لا يملك مسكنا، ليلتقى في الإفتراضي الهامش بالمركز عابرا للحدود بين مدن الثراء وأحياء الصفيح المجاورة كان ذلك في ساوباولو أو القاهرة أو ليفربول.
بوابة افريقيا الإخبارية