متابعات إعلامية / كتب / د. جمال الزرن
ما
ليس له صورة ليس له واقع"
ريجيس
دوبريه
Régis Depray
1- متعة الصورة وإشكالاتها :
رغم
كل النقد الذي يوجه إلى التلفزيون بوصفه وسيلة الإعلام الجماهيرية الأكثر تأثيرا
في الجمهور فإنه يصعب حلحلة سطوة هذه العلبة السوداء على امتداد أكثر من نصف قرن
على مجال صناعة الصورة والتأثير في أذواق الناس وقناعاتهم. قد يكون ما كتب نقدا
ورفضا للتلفزيون يفوق بشكل كبير ما كتب صقلا وتأصيلا واحتفاء بهذا الجهاز العجيب
والذي يعتبره دومنيك فولتون الباحث الفرنسي المختص في الاتصال الجهاز الإعلامي
الأكثر ديمقراطية وذلك بحكم مقدرة الأمي والوزير على مشاهدته وفهم رسالته. غير أن
بيير بورديو، وهو أكثر علماء الاجتماع تميزا وإثارة فكرية وأحد أبرز من وجه مقاربة
نقدية لماهية التلفزيون ضمن سياق تحليله للمجال الصحفي، يعتقد أننا لا يمكننا أن
نقول شيئا هاما في التلفزيون وأكثر من ذلك يصعب قول شيء ما أيضا عندما يتعلق الأمر
بنقد التلفزيون في التلفزيون.
متعة
التلفزيون ها هنا مضاعفة : فهي متعة التسلية والفرجة من جهة ومتعة البحث في
إشكالات التلفزيون المركبة من جهة أخرى. من أين يأتي تعقد إشكاليات التلفزيون على
المستوى البحثي ؟ يبدو أن الظواهر الاجتماعية المركبة هي تلك التي تتعدد فيها
الأطراف المتدخلة عموديا وأفقيا والتلفزيون يحتوى في داخله وفي محيطه عديد الأطراف
الفاعلة فيوجد التقني والسياسي والنفسي والاقتصادي والاجتماعي لذلك علينا عدم
إغفال أي دور لأي طرف متدخل في تشكل ظاهرة التلفزيون بحثا واستهلاكا.
ويعود
هذا التردد الفكري في التعامل مع التلفزيون إلى مستويين : الأول يتمثل في أن مادة
التلفزيون هي بامتياز الصورة والتي يصعب بحثيا الحسم في ماهيتها والقول هل فعلا
تنقل الصورة الواقع أم هي مجرد عرض لنمط من أنماط تمثلات ذلك الواقع. هنا
بالتحديد نستحضر مقولة ريجيس دوبرييه "ما ليس له صورة ليس له واقع". الثاني
يتمثل في كون صورة التلفزيون غزت ومنذ بداية نشأتها مؤسسة الأسرة أولا والمدرسة
ثانيا بوصفهما العناصر التقليدية المؤسسة للتنشئة الاجتماعية ولمسارات التربية
والتعليم، بل بات اليوم التلفزيون في نفس مرتبة المدرسة أو أكثر ففي كثير من
المجتمعات فإن الوقت الذي يقضيه طفل المدارس مثلا أمام التلفزيون أكثر بكثير مما
يقضيه على مقاعد الدراسة. كيف بنا إذن أمام كل هذه الإشكاليات أن نستهين بالبحث في
تعقيدات التلفزيون؟ كيف بنا أن نحسم بكوننا متفائلين أو متشائمين إزاء التلفزيون ؟
حفريات
في الصورة والتلفزيون:
فتحت
الصورة عصرا جديدا فحلت محل ثقافة المكتوب وذهب بهيبته التي تربعت لقرون على عرش
أنماط تناقل الأفكار والمشاعر والآراء. هجمة الصورة التلفزيونية أحدثت شروخا في
سلطة المكتوب ليجد نفسه في درجة ثانية من تبادل العلم والمعرفة وخاصة الأخبار. لم
يعد المكتوب في حاجة إلى الوصف لنقل تفاصيل الأشياء لقد تكفلت الصورة بالتفاصيل
وبالدليل وبالألوان. إذا كان المكتوب قد أحدث الثورة الأولى في نقل الأخبار فإن
الصورة ذهبت أبعد من الخبر لتحيل الحدث إلى ظاهرة اتصالية. أنتجت الصورة مشهدا
معولما جديدا اسمه القرية الكونية.
عند الحديث عن التلفزيون معرفيا يمكن القول إن علم
الاجتماع الاتصالي والذي يعتبر سليل علم الاجتماع الوظيفي في الغرب فطن ومنذ بداية
النصف الثاني من القرن العشرين إلى وسائل الإعلام وخاصة منها السمعية المرئية
بوصفها أدوات جديدة لديمقراطية جديدة، وآلية مركزية حديثة في تنظيم المجتمعات. وصيغت
في هذا السياق نظريات تعطى الأولوية لمسألة إعادة إنتاج القيم المجتمعية للنظام
القائم، أي الأوضاع الاجتماعية والسياسة السائدة. في المقابل فإن المدارس الفكرية
النقدية وخاصة منها مدرسة "فرانكفورت" سعت إلى مساءلة نتائج تطور وسائل
الإنتاج والبث الثقافي هذه، رافضة أن تأخذ بمسلمة أن التحديثات الاتصالية التقنية
ستؤدى، بالضرورة إلى دعم الديمقراطية بل بالعكس للاغتراب والهيمنة. إن الرؤية التي
روج لها التحليل السوسيولوجي الوظيفي والذي يرى في وسائل الاتصال ومن بينها التلفزيون
ما هي إلا ميكانيزمات تنظيمية ضبطية تعرضت بدورها لقراءات نقدية باعتبار أن وسائل
الاتصال- لعل التلفزيون أهمها-أصبحت تمثل مصدرا للعنف الرمزي والقهر والتضليل
والتسلط والسيطرة على بني المجتمع المختلفة.
واحتل التلفزيون طيلة القرن العشرين ولا زال كل سجال على
صلة بالعلاقة بالمجال العمومي والمجال الميدياتيكي إذ يذهب يورجن هبرماس إلى أنه
على السوسيولوجيا النقدية أن تدرس شبكات التفاعل في مجتمع مشكل من علاقات اتصالية
ومن " اتحاد الأشخاص المتعارضين في الاتصال". ويعارض هبرماس "الفعل
الاستراتيجي" أي العقل والفعل ذوي الأهداف النفعية والأداتية (الذي تشكل
وسائل الاتصال الجماهيرية عدته المفضلة) عبر الصورة والتي توشك أن تستعمر "العالم
الاجتماعي المعيش"، ويقترح بدلا منه جملة من أنماط الفعل الأخرى أو العلاقات
مع العالم التي تملك معيارها الخاص لاعتماد هذا العالم : الفعل الموضوعي، والفعل
الإدراكي والفعل التواصلي الذي يفرض عليك قول الحقيقة، والفعل ما بين الذاتيات
الذي يستهدف العمل الأخلاقي والفعل التعبيري الذي يفترض النزاهة. ويشخص هبرماس
أزمة الديمقراطية في الآليات الاجتماعية التي كان من المفروض أن تسهل التبادل
وانتشار العقلانية الاتصالية، لكنها استقلت ذاتيا، وسيرت ذاتها "تجريدا
حقيقيا". وتقوم هذه الآليات، فعلا، ومنها التلفزيون بتدوير المعلومات غير
أنها تعرقل العلاقات الاتصالية، أي تعرقل نشاطات تأويل الأفراد، والمجموعات
الاجتماعية. ويرى هبرماس أن العقلانية ليست لها أية صلة "بامتلاك المعرفة،
لكنها ذات علاقة بالطريقة التي يقوم بها الأشخاص الموهوبون بالكلام والفعل،
وباكتساب المعرفة وباستخدامها".
في
ذات السياق كان موضوع القمع الخفي للصورة من المسائل المحبذة في مشروع بيار بورديو
السوسيولوجي، والذي أسسه على خلفية تحليلاته للتصورات والممارسات الثقافة وانتهى
به إلى مفهوم ومصطلح الهابيتوس Habitus والذي طوره وطبقه على
التلفزيون والتصوير الفوتوغرافي وغيرهما من الحقول الثقافية. استطاع بورديو أن
يبين أن ممارسة الترفيه، التي يعتقد الكثيرون أنها لا تخضع لرموز التصورات
المهيمنة القادرة على تحرير القدرة التعبيرية لكل الأفراد كما هو الحال مع "ستار
أكاديمي" التي هي انتصار لرموز ودلالات الجماعات المسيطرة والأعراف
الاجتماعية السائدة. أما ميشال فوكو وفي كتابه الشهير الرقابة والعقاب
Surveiller et punir فقد أضاف تجديدات تحديثية
اعتمدت أساسا على تفكيكه لأشكال ممارسة السلطة. وقد صنف فوكو في هذا الكتاب شكلين
من أشكال الضبط الاجتماعي : "النظام ـ المحاصرة" الذي يعتمد على
النواهي، والممنوعات والأسيجة والتراتبية، والفصل وفقدان التواصل، و"النظام ـ
الآلية"، المؤسس على تقنية الرقابة المتعددة والمتقاطعة، وآليات الضبط
الوظيفي المرنة، والأجهزة التي تمارس رقابتها عبر استيطان الفرد لواقع خضوعه
المستمر للرقابة لعل التلفزيون اهمها.
الجزيرة الوثائقية